فاطمة ناعوت تكتب الجمالُ فى دير العذراء
دعوة طيبة وصلتنى قبل شهرين، لإلقاء محاضرات حول «الجمال»، فى دير العذراء.. سيدة البشارة بكنج مريوط. رحّبتُ دون تردد، رغم أن الندوة تزامنت مع أيام عيد الأضحى، لأنها الإجازة الرسمية التى تتمكن فيها الراهباتُ من الحضور، وترك رسالتهن الميدانية النبيلة فى المدارس والمستشفيات والجمعيات الأهلية. رحبتُ بكل فرح، بما أن البحث عن الجمال هو خطُّ اهتمامى الأول. على أننى، بمجرد أن أخذتُ مكانى على المنصة، أمام حشد الراهبات، ضربتنى الرهبةُ، ونسيت كلَّ ما احتشد به رأسى من كلام! «ما الذى فعلتِه بنفسك يا بنت؟!» هكذا قلتُ لنفسى. هل جئتُ للكلام عن الجمال، فى معقل الجمال! همس نزار قبّانى فى أذنى: «الصمتُ فى حرم الجمالِ، جمالُ». وجوهٌ مرَّت عليها السماءُ بريشة الطُّهر والجمال البكر، ففاضت بنور ينبع من العمق. فهل من اليسير الكلامُ عن الجمال نظريًّا، أمام لوحة من الجمال الحىّ؟ ضاعف هذا من صعوبة الكلام عن شىء، هو فى الأصل عَصىٌّ على التعيير والتعبير، اسمه الجمال. على أننى تكلمت بما منّ اللهُ به علىّ من أفكار حول الجمال، تكوّنت لدىّ عبر قراءاتى، وعبر تأملاتى الشخصية. وتكلمنا حول الكتاب الجميل، «كُنْ إنسانًا» للأب كيرلس تامر، الذى يطرح فيه كيف يمكن للمرء أن يكون «إنسانًا»، بكل ما تحمل هذه المفردة من قيم. كان الحضور راقيًا، والحوار والأسئلة لا تأتى إلا من عقول أمعنت التأملَ فى سؤال الوجود، فاختارت المعادلةَ الأرقى: «بالجمال وحده ننقذُ العالم»، كما قال تولستوى. جاء من الإسكندرية الصديقُ النبيل: ماجد عبدالفتاح، ليهدى الديرَ، باسم أسرته، لوحةَ «زكّا العشّار» التى رسمها والدُه الفنان الراحل أحمد عبدالفتاح، فصنع بهذا لفتةً رفيعة رسمتِ الفرحَ على وجوه الحضور، وعلى وجه السماء، أيضًا. فى صباح اليوم التالى، حضرتُ معهن الصلاةَ والقداس، فهالتنى لوحةٌ أخرى من الجمال الحىّ. خشوعٌ حقيقىّ، وترانيمُ عذبةٌ تذيبُ القلبَ حبًّا للكون ولخالق هذا الكون. «نُصلّى لإخواننا أصحاب الديانات الأخرى، ليحيوا عمقَ إيمانهم. نُصلّى من أجل كلِّ إنسان يمارس العنفَ باسم الدين، ليكتشف غِنى وعظمة حب الله.» سمعت الراهبات يقلن هذا، وقرأته فى كتب الترانيم، الموضوعة أمام كل مقعد، بما يعنى أن دعواتهن الطيبة للمسلمين جزءٌ أصيل من صلواتهن اليومية وقدَّاسهن، وأنهن لا يبخلن بالدعاء حتى لمن قسا قلبُه. على أن إتقانهن الصلاةَ، لا يَجُبُّ حياتهن بنفس مستوى الإتقان. واللهُ يحبُّ من البشر مَن يؤدى بإتقان أعماله كافة. هكذا الأوروبيون، والجنوب شرق آسيويون، وهذا سرُّ تفوقهم. وهكذا الراهباتُ أيضًا. لذلك نُشيد جميعُنا بالتعليم الراقى فى مدارس الراهبات. تأملتُهن فى مطبخ الدير، يعددن الطعامَ لمائة إنسان، كأنهن خليةُ نحل نشطة، استوعبتْ درسَ السماء الأول: «العملُ عبادة».. أولئك بشرٌ يفعلون كل شىء بصدق وحبّ. العملُ حقٌّ. والصلاةُ للسماء حقٌّ. ومحبةُ البشر حقٌّ. والسعىُ نحو الجمال حقٌّ. افتقاده إن غاب حقٌّ. ثم صناعته حقٌّ، وهدفٌ وحتميةُ وجود. أما ما أدهشنى فكانت جلسة السمر التى عقدناها فى المساء. كسرتِ الراهباتُ الصورةَ النمطية الخاطئة المستقرة فى وعينا بأنهن جافات متجهمات. فكما يُجِدن العملَ والصلاةَ والجمالَ والحبَّ، يُجِدن أيضًا المرحَ واللعبَ ونسجَ الأُحجياتِ والنكاتِ الراقية. فى الصباح التالى تحدثتُ فى محاضرتى الثانية، عما سمّيته «إسفكسيا الجمال».. الجمالُ فى درجاته العليا، تلك التى لا يملك الإنسانُ المقدرةَ على استيعابها.. مثل «لؤلؤة» جون شتاينبك الضخمة التى اصطادها الفلاح الفقير «كينو» فلم يستطع الناسُ احتمالَ جمالها، فأعادوها للبحر من جديد. عدّدتُ الأمثلة، لكننى لم أقوَ على أن أخبر أولئك الراهبات، بأن النورَ الذى رأيته فى وجوههن، كان ينتمى بامتياز لذلك النمط من الجمال الطاغى.. أمرٌ عسير أن تصرّح لأحد بما تراه فى وجهه من جمال، لا تحمل المقدرة على استيعابه كاملاً.
المصرى اليوم
دعوة طيبة وصلتنى قبل شهرين، لإلقاء محاضرات حول «الجمال»، فى دير العذراء.. سيدة البشارة بكنج مريوط. رحّبتُ دون تردد، رغم أن الندوة تزامنت مع أيام عيد الأضحى، لأنها الإجازة الرسمية التى تتمكن فيها الراهباتُ من الحضور، وترك رسالتهن الميدانية النبيلة فى المدارس والمستشفيات والجمعيات الأهلية. رحبتُ بكل فرح، بما أن البحث عن الجمال هو خطُّ اهتمامى الأول. على أننى، بمجرد أن أخذتُ مكانى على المنصة، أمام حشد الراهبات، ضربتنى الرهبةُ، ونسيت كلَّ ما احتشد به رأسى من كلام! «ما الذى فعلتِه بنفسك يا بنت؟!» هكذا قلتُ لنفسى. هل جئتُ للكلام عن الجمال، فى معقل الجمال! همس نزار قبّانى فى أذنى: «الصمتُ فى حرم الجمالِ، جمالُ». وجوهٌ مرَّت عليها السماءُ بريشة الطُّهر والجمال البكر، ففاضت بنور ينبع من العمق. فهل من اليسير الكلامُ عن الجمال نظريًّا، أمام لوحة من الجمال الحىّ؟ ضاعف هذا من صعوبة الكلام عن شىء، هو فى الأصل عَصىٌّ على التعيير والتعبير، اسمه الجمال. على أننى تكلمت بما منّ اللهُ به علىّ من أفكار حول الجمال، تكوّنت لدىّ عبر قراءاتى، وعبر تأملاتى الشخصية. وتكلمنا حول الكتاب الجميل، «كُنْ إنسانًا» للأب كيرلس تامر، الذى يطرح فيه كيف يمكن للمرء أن يكون «إنسانًا»، بكل ما تحمل هذه المفردة من قيم. كان الحضور راقيًا، والحوار والأسئلة لا تأتى إلا من عقول أمعنت التأملَ فى سؤال الوجود، فاختارت المعادلةَ الأرقى: «بالجمال وحده ننقذُ العالم»، كما قال تولستوى. جاء من الإسكندرية الصديقُ النبيل: ماجد عبدالفتاح، ليهدى الديرَ، باسم أسرته، لوحةَ «زكّا العشّار» التى رسمها والدُه الفنان الراحل أحمد عبدالفتاح، فصنع بهذا لفتةً رفيعة رسمتِ الفرحَ على وجوه الحضور، وعلى وجه السماء، أيضًا. فى صباح اليوم التالى، حضرتُ معهن الصلاةَ والقداس، فهالتنى لوحةٌ أخرى من الجمال الحىّ. خشوعٌ حقيقىّ، وترانيمُ عذبةٌ تذيبُ القلبَ حبًّا للكون ولخالق هذا الكون. «نُصلّى لإخواننا أصحاب الديانات الأخرى، ليحيوا عمقَ إيمانهم. نُصلّى من أجل كلِّ إنسان يمارس العنفَ باسم الدين، ليكتشف غِنى وعظمة حب الله.» سمعت الراهبات يقلن هذا، وقرأته فى كتب الترانيم، الموضوعة أمام كل مقعد، بما يعنى أن دعواتهن الطيبة للمسلمين جزءٌ أصيل من صلواتهن اليومية وقدَّاسهن، وأنهن لا يبخلن بالدعاء حتى لمن قسا قلبُه. على أن إتقانهن الصلاةَ، لا يَجُبُّ حياتهن بنفس مستوى الإتقان. واللهُ يحبُّ من البشر مَن يؤدى بإتقان أعماله كافة. هكذا الأوروبيون، والجنوب شرق آسيويون، وهذا سرُّ تفوقهم. وهكذا الراهباتُ أيضًا. لذلك نُشيد جميعُنا بالتعليم الراقى فى مدارس الراهبات. تأملتُهن فى مطبخ الدير، يعددن الطعامَ لمائة إنسان، كأنهن خليةُ نحل نشطة، استوعبتْ درسَ السماء الأول: «العملُ عبادة».. أولئك بشرٌ يفعلون كل شىء بصدق وحبّ. العملُ حقٌّ. والصلاةُ للسماء حقٌّ. ومحبةُ البشر حقٌّ. والسعىُ نحو الجمال حقٌّ. افتقاده إن غاب حقٌّ. ثم صناعته حقٌّ، وهدفٌ وحتميةُ وجود. أما ما أدهشنى فكانت جلسة السمر التى عقدناها فى المساء. كسرتِ الراهباتُ الصورةَ النمطية الخاطئة المستقرة فى وعينا بأنهن جافات متجهمات. فكما يُجِدن العملَ والصلاةَ والجمالَ والحبَّ، يُجِدن أيضًا المرحَ واللعبَ ونسجَ الأُحجياتِ والنكاتِ الراقية. فى الصباح التالى تحدثتُ فى محاضرتى الثانية، عما سمّيته «إسفكسيا الجمال».. الجمالُ فى درجاته العليا، تلك التى لا يملك الإنسانُ المقدرةَ على استيعابها.. مثل «لؤلؤة» جون شتاينبك الضخمة التى اصطادها الفلاح الفقير «كينو» فلم يستطع الناسُ احتمالَ جمالها، فأعادوها للبحر من جديد. عدّدتُ الأمثلة، لكننى لم أقوَ على أن أخبر أولئك الراهبات، بأن النورَ الذى رأيته فى وجوههن، كان ينتمى بامتياز لذلك النمط من الجمال الطاغى.. أمرٌ عسير أن تصرّح لأحد بما تراه فى وجهه من جمال، لا تحمل المقدرة على استيعابه كاملاً.
المصرى اليوم
Comment