لقد نزع الأوروبيون عن قادة الفكر والفعل هالات التبجيل المفرط واستبدلوها بالتركيز على الحقائق والاهتمام بدقة الدراسة واستقصاء البحث وموضوعية التقييم وعَمَدوا إلى إبراز المحاسن والمساوئ وتأكيد جوانب القصور بالإضافة إلى جوانب التميُّز فيبقى العظيم عظيماً ولكن ضمن إطار النقائص البشرية
لم يزدهر الأوروبيون هذا الازدهار العظيم ولم يحققوا هذه الإنجازات الحضارية الهائلة حتى اكتشفوا نقائص الكبار من قادة الفكر والفعل فتخلصوا من تقديس الأشخاص وانفكوا من أسر العظماء وتحولوا من التمحور حول الأشخاص إلى التركيز على الأفكار والأفعال التي لا تكتسب أهميتها من الشخص وإنما من اقترابها من الحقيقة وتوافقها مع العدل واستنادها إلى الوقائع، فالتقييم للفكر أو الفعل ينبني على عناصر موضوعية أياً كان القائل أو الفاعل فلا تعظيم للشخص ذاته إلا بمقدار تواضعه وصدقه واعترافه الصريح بأخطائه وتحقق التطابق بين أقواله وأفعاله إن التعظيم ليس للشخص بشكل مطلق بل للفكر الناضج الذي يصدر عنه والرأي الحكيم الذي يقول به والأمانة الناصعة التي يلتزم بها ومهما كان علمه وصدقه وأمانته وموضوعيته فإن التعامل معه ليس على أنها كاملة ونهائية وإنما على أنها مجرد عون مطلوب للاقتراب من الحقيقة والعدل والصواب...
وبالنسبة لرجل العلم والفكر والرأي ليس مهماً شخصه وإنما الأهمية تتركز بالعناصر الموضوعية من قوله وفعله، لقد تحول الأوروبيون من الاهتمام بالأشخاص إلى العناية بالحقيقة والتعلق بها والسعي الحثيث لاكتشافها فلا يكون القول صواباً لمجرد أن فلاناً قاله وإنما يستند الحكم له أو عليه على مكوِّنات موضوعية مفصولة عن شخص لقد مجدَّوا الحقيقة الناصعة المجردة واستعادوا الثقة بأنفسهم واعترفوا بقيمته وشرءعنوا حقه في التفكير المستقل والاختيار الحر، لقد احتفظوا للعظماء بالاحترام والتقدير ولكنهم تخلوا عن تقديسهم وأعادوهم إلى بشريتهم وأيقنوا أن العظيم مثل غيره من البشر يخطئ ويتوهم ويجهل وتسيطر عليه عادات ذهنية وسلوكية، وقد يقوده هواه وقد ينصاع مع تعصبه وقد ينحاز قصداً وتلقائياً فعظمته لا تعني عصمته وإنما تتأسس على وجود مزايا لديه لكن هذه المزايا لا تعني التزكية المطلقة ولا الكمال التام بل إن أخطاء العظيم قد تكون فظيعة ومدمِّرة لأن ضررها يمتد في المكان والزمان وتتوارثها الأجيال بعد الأجيال وتؤثر على حياة أمة بأكملها وقد تهبط بالأمة إلى درك التنافر والاقتتال..
إن معرفة الحقائق والالتزام بها والعمل على ضوئها هي الغاية المجيدة التي تليق بالإنسان فلا يجوز حجب الحقيقة ولا حظر السعي إليها ولا منع استخدام كل الوسائل للكشف عنها ولا الحيلولة دون التأكد منها ولا يحق لأحد إحكام أطواق الوصاية في تحديدها ومنع مقارنة دعاوى امتلاكها إن الحقيقة أهم من الأشخاص مهما كانت مكانتهم فلا صلاح للناس ولا استقامة للأمور ولا ازدهار للحياة إلا بالوضوح والتفكير المفتوح والاعتراف لكل المكلفين بحقهم في الاستقصاء والتحقق وعدم إلزامهم بالطاعة العمياء لمن يتوهمون امتلاك الحقيقة المطلقة ويزعمون أن هذا الامتلاك المتوهم يخولهم الحق المطلق في الوصاية على الحياة والأحياء.
لقد نزع الأوروبيون عن قادة الفكر والفعل هالات التبجيل المفرط واستبدلوها بالتركيز على الحقائق والاهتمام بدقة الدراسة واستقصاء البحث وموضوعية التقييم وعَمَدوا إلى إبراز المحاسن والمساوئ وتأكيد جوانب القصور بالإضافة إلى جوانب التميُّز فيبقى العظيم عظيماً ولكن ضمن إطار النقائص البشرية. أما قبل يقظة المراجعة وخلال قرون السُّبات والاستسلام فكان الأوروبيون أسرى للسابقين وكما يقول الفيلسوف الانجليزي برتراند راسل في الجزء الثالث من كتابه (تاريخ الفلسفة الغربية): كانت سلطة أرسطو والكنيسة مُفحمة إفحام شهادة الحواس...!!!
لقد أثبت التاريخ وأكدت تجارب الأمم في الماضي والحاضر أن التمحور حول قادة الفكر والفعل الناتج عن الانغلاق الثقافي والاستبداد السياسي هو مصدر العقم وهو سبب الكلال. لقد ظل الأوروبيون قرونهم الراكدة والمظلمة يقدسون أرسطو وغيره من شوامخ الفلاسفة والمفكرين والمصلحين والدعاة وكانت سلطة الكنيسة لا تسمح بنقدهم ولا مراجعة أقوالهم فبقي الأوروبيون مأسورين بهم خاضعين لآرائهم مستسلمين لكل ما انتهوا إليه من أفكار وأحكام ورؤى واتجاهات ومواقف وكأنهم الكمال المطلق وأنهم البداية والنهاية أو كأنهم فوق مستوى البشر فما قالوه إثباتاً أو نفياً فهو الصواب المطلق الذي لا يتطرق إليه الشك ولا يحق لأحد وضعه موضع النقاش والنقد والتقييم والمراجعة وبذلك أوصد الأوروبيون على أنفسهم داخل أسوار بشرية أقامها أشخاص مثلهم فعطلوا بهذا الاستسلام عقولهم أجيالاً متعاقبة وبقوا يرددون أقوالهم بإجلال مُفرط وتقديس آسر ثم اكتشف مفكروهم العظام أن هذا التقديس لأقوال أفراد من البشر مهما بلغت عظمتهم هو السبب في عقم العقول وكلال الأعمال وتراجع العلم وتقهقر الحضارة وبؤس الحياة..
إن هذا التقديس للأشخاص من قادة العلم والفكر وهذا الاستسلام لرؤاهم ومواقفهم مخالف للمنهج النقدي الذي ابتكره وتوصَّل إليه أولئك الشوامخ أنفسهم فهم يؤكدون منذ البدء وعلى امتداد حيواتهم وفي كل جَدَلهم وكتبهم وما جرى تدوينه عنهم على ضرورة بقاء أبواب النقد مفتوحة وسُبل التصحيح مهيأة فلا نهاية لتجارب الحياة ولا حد لتطور القدرات وهذا يقتضي مواصلة التجاوز وتجدد التأسيس واستمرار الكشوف فالعلم ليس مجرد معلومات متراكمة وإنما هو تحقق وفحص ومراجعة واستقصاء وما جاز للسابقين يجوز للاحقين فكلهم مسؤولون عن التحقق ولا مزية لأحد سابق أو لا حق إلا بقدر إخلاصه للحق وقدرته على الاقتراب منه...
إن التحقق ليس سهلاً فلا تنجلي الحقيقة إلا للذين يكافحون من أجلها، فالتحقق جهد واستقصاء وتركيز وإخلاص واستعداد وتأهيل إنه شك بالسائد وشغف بكشف المجهول وتساؤل حاد عن مكونات المألوف إنه طريقة تفكير وأسلوب تناول ونشاط عقل وانتباه لعلاقات الأشياء فلم تكن فتوحات اليونانيين في المعرفة والاجتماع والسياسة قائمة على كثرة المعلومات وإنما على أسلوب فريد ومبتكر في النظر والتقييم فلقد اكتشفوا أن العقل البشري يبقى راكداً يردد الموروث ويستسلم للمألوف حتى يواجه بالتحدي والنقد والمساءلة، فالنقد الموضوعي هو دافع ارتقائهم وهو مصدر عظمتهم وإذا جرى التخلي عن منهجهم النقدي والاقتصادي على ترديد أقوالهم فإن ذلك يخالف قصدهم وهو نكوص عن أسلوب النظر عندهم، فكانت عودة النقد إلى الثقافة الأوروبية في العصر الحديث إحياءً للفكر اليوناني وليست ثورة عليه ولا إلغاء له...
كان فرنسيس بيكون في بريطانيا من أشهر قادة الفكر الذين قادوا حملة النقد على الموروث وواصلوا المطالبة بالانفكاك من أسره وهو لم ينكر أن هذا الموروث كان في زمنه عظيماً، ولكن مصدر عظمته أنه فكر نقدي لا يقبل الاستسلام الأعمى، فهو يفتح أبواب التحقق ولا يغلقها فكل اجترار لأقوال الشوامخ هو خروج عن منهجهم وإساءة لفهم مقاصدهم وتراجع عن الغاية التي استهدفتها أفكارهم فعظمة عقول الفلاسفة السابقين لا تلغي حق المفكرين في الأجيال اللاحقة في استخدام عقولهم وحقهم في تجاوز ما انتهى إليه أسلافهم فاللاحق لا بد أن يكون أوسع علماً من السابق بحكم تنامي الخبرة وتراكم المعرفة وابتكار منهاج جديدة في البحث والمحاكمة، فلا يوجد ما يبرر التوقف، لقد لاحظ بيكون أن تقديس العظماء الأوائل صار قيداً للعقل وخانقاً للعلم ومانعاً للتقدم، فأعلن بكل جرأة: "لا شيء أكثر بطلاناً أو أكثر تهوراً من معظم الأفكار المتلقَّاة" وبذلك هب العقل الأوروبي من غفلته واستيقظ من سباته وعَرَف حقيقة القيود التي تكبله وأدرك فداحة الخسارة التي لحقت به بسبب الاستسلام الطويل لهذه القيود فتوالت ضربات النقد لأفكار السابقين حتى انهار جدار التقديس مع الإبقاء على التقدير والاحترام لأرسطو وغيره من المرجعيات الشامخة بوصفه واحداً من أعظم مفكري الإنسانية، ولكن عظمته لا تخرجه من الإطار البشري المملوء بالنقائص، وبهذا التحرر من الأسر البليد انطلق العقل الأوروبي يفتح آفاق العلم ويؤسِّس لتحولات جذرية جديدة في كل منحى من مناحي الحياة الإنسانية...
ومن البداهات في الفكر الغربي أن النقد ليس انتقاصاً للعظماء بل هو نوع من مواصلة التمجيد فمن المعروف أنه في الثقافات المزدهرة يأتي النقد دلالة على التعظيم للمنقود فلولا الأهمية التي يستحقها والمكانة العالية التي يحتلها لكان نصيبه الإهمال، أما وقد كلّف النُّقاد أنفسهم عناء الدراسة لآثاره والتمحيص لأفكاره والمواجهة لرؤاه والنقد لتأثيره والمساءلة لكل ما انتهى إليه فإن هذا الاهتمام وحده دلالة الاعتراف بأهميته فلم يكن نقدهم لأرسطو تقليلاً من عظمته بل إن هذا النقد يعترف بأن فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أرسطو هم الذين أحدثوا ذلك التبادل الجوهري في التفكير البشري وهم الذين شقوا الطريق للإنسانية نحو الأمجاد الحاضرة، فهم الذين أسّسوا التفكير النقدي بعد أن اكتشفوا أنه مفتاح قدرات العقل وهم الذين أقاموا المعرفة على التمحيص والمواجهة بين الأفكار والمساءلة للأقوال وكما يقول روبير لونوبل: "حَدَثَ تبدُّل حقيقي في تاريخ العلم في القرن السابع عشر يمكن مقارنته بالتبدل الجوهري الذي حوَّل اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد وبالذي نعيشه مع اكتشاف النسبية والكوانتا" فالأوروبيون المحدثون يعترفون بكل وضوح بعظمة التراث اليوناني ويؤكدون أنهم تعلموا من ذلك التراث العظيم والفريد وأنهم بما أنجزوه من تبدُّل في طريقة النظر ليسوا سوى تلامذة لأولئك اليونانيين الأفذاذ الذين ابتكروا منذ القرن الخامس قبل الميلاد تبدلات جوهرية في استخدام العقل الإنساني وليس أدل على هذه التلمذة الشاكرة الممتنَّة من أن الأوروبيين المحدثين يكتفون بأن ثورتهم على الاجترار تقارن بالتبدل الجوهري الذي أنجزه اليونانيون...
أهاب بيكون بالإنسان كي لا يظل أعمى مأسوراً بأقوال السابقين وطالب العقل بأن يتعرَّف إلى الأشياء ليس بالرجوع إلى ما قيل عنها بل بأن يمتحنها بعقله النافذ وفحصه الدقيق وتجربته المباشرة، وكما يقول ميشال دوفيز في كتابه (أوروبا والعالم): "العقل والتجربة هما الصفتان البارزتان للعالم اللتان أبرزهما فرنسيس بيكون في النظام الجديد.. بيكون يرفض في الميدان العلمي السلطة القدسية.. الشك الديكارتي يصدر عن هذه الحالة الذهنية ذاتها، هذا الموقف كان له أن يستتبع إعادة نظر كاملة في المفاهيم المتلقَّاة.. القرن الثامن عشر بجرأة يمرِّر في غربال العقل كلَّ الأفكار المعترف بها من قديم.. لا جدال في أن انطلاق العقلانية أعطى الأوروبيين تفوقاً جديداً بتحريره العلم من القيود التي كانت تعيق تقدماته"، وهكذا استجابت أوروبا لمفكريها فخلصوها من تقديس الأشخاص وأطلقوا عقلها من عقاله ليفكر بنفسه لنفسه فحدثت يقظة شاملة وعارمة وشاعت هذه الحالة الذهنية حتى باتت المراجعة حقاً متاحاً يمارسه كلُّ القادرين فاستنارت العقول ونشطت الأذهان وتضافرت الجهود واستشعر الناس مسؤوليتهم في التحقق والتمحيص وتوارت المداهنة ولم يعد الناس مضطرين للنفاق والإخفاء وصاروا يستنكفون من التقليد الأعمى وعمَّت أفكار التوثُّب وأحسَّ الجميع بالثقة والأمان واختفى الإرهاب الفكري وساد الوضوح وأصبحت الشفافية مطلب الكل وحق الجميع..
إن كل هذا الفيض من النقد والنقد المضاد وجدل الأفكار وحراك الأوضاع وصراع الاتجاهات وتنافس الأحزاب إن كل هذا قد أدى إلى أنسنة السلطة وتطبيع العلاقات بين القادة والعامة وإزالة الهالات وتقليص الفروقات وأوجد في الغربيين حساسية متناهية ضد قوة السلطة فأصبحوا لا يسمحون لفرد مهما تناهت عظمته ومهما كان نفعه لهم أن يشعر أنه مختلف عن أفراد المجتمع فيبلغ درجة التسلط وباتوا لا يعلقون مصيرهم بمقدرة فرد واحد مهما بلغت عبقريته لذلك فإنهم لا يسمحون لأي إنسان أن يستمر على قمة الهرم الاجتماعي حتى ولو كان هذا الاستمرار بواسطة الاقتراع العام تحاشياً لتركيز السلطة وتجنباً لعودة شيء من الاستبداد وسداً لذريعة التعلق بفرد...
وقد تنبَّه الغرب لهذا المعنى منذ أيام الإغريق حتى إن أفلاطون في كتابه (الجمهورية) يرى أن أشد الشعوب غفلة وحماقة هو الشعب الذي يسمح لأي فرد بتأكيد سلطته حتى يصبح "أقوى من أن يستطيع الشعب أن يطرده" وقد أثبت التاريخ للأوروبيين صحة مقولة أفلاطون فقد سقطت أوروبا في ظلمات العصور الوسطى حين فرَّطت بهذا المبدأ فقدَّست الأشخاص وانقادت لسلطة الكنيسة وخضعت للأباطرة فَفَقَدَت القدرة على التفكير الناقد وظلت تتلقى باستسلام وتجتر ببلادة وتردد ببغائية ولكنها ما أن استعادت ذاتها وفكّرت باستقلال وتفتُّح حتى كسبت الرهان الأكبر.. رهان الحرية والكرامة والتقدم والازدهار...
ولم يتركوا هذا الإنجاز العظيم معرضاً للتحايل أو التساهل أو للالتفات أو الاجتهاد وإنما حموه بدساتير حاسمة وبمؤسسات مدنية قوية وبصحافة حرة ساهرة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية نصَّ الدستور الأمريكي على استحالة التجديد للرئيس أكثر من ثماني سنوات حتى أن ريغان حين كان في ذروة شعبيته لم يستطع تغيير هذه المادة من الدستور فصار محالاً عليه أن يترشَّح فترة رئاسية ثالثة، وتشرشل هزم هتلر في الحرب العالمية الثانية وحقق لبريطانيا نصراً عظيماً كاسحاً لكنه سقط في أول انتخابات عامة أعقبت الحرب، وكذلك فعل الفرنسيون حين انحازوا في الانتخابات لمنافس ديجول رغم أنه أنقذ فرنسا من الاحتلال الألماني وقاد فرنسا بحكمة فريدة غير أن الشعوب الأوروبية تعلّمت أن لا تركن لإنسان فرد مهما تألقت عبقريته فرفعت القداسة عن البشر ولم تسمح لأحد أن يستثمر حتى انتصاراته الباهرة من أجل أن لا يتحوَّل إلى مستبد فهي تحتفظ له بالاحترام وتلتزم بتكريمه لكنها تُنحِّيه قبل أن يستفحل أمره فلا مكان في الثقافات الأوروبية للقائد المنقذ ولا للزعيم الأوحد ولا للبطل الملهم ولا للعالم الفريد الذي ما رأى مثل نفسه!!!...
في الغرب يندفع الناس خلف نجوم الكرة أو التمثيل أو الغناء وأمثالهم من الذين لا يتحملون مسؤوليات عامة ولا علاقة لهم بإدارة أمور الناس، أما المكلفون بشؤون المجتمع فإنهم كلما عظُمَتء مسؤولياتهم اشتد النقد لهم والسخرية بهم والتنكيت عليهم ومن يدخل إلى الإنترنت يرى صوراً مضحكة للرئيس الأمريكي الحالي بوش، فلا حصانة لأحد من النقد وبعد عام سيعود بوش مواطناً عادياً رغم كل ما أثاره في الدنيا خلال سنواته الثماني من حروب وصخب
لم يزدهر الأوروبيون هذا الازدهار العظيم ولم يحققوا هذه الإنجازات الحضارية الهائلة حتى اكتشفوا نقائص الكبار من قادة الفكر والفعل فتخلصوا من تقديس الأشخاص وانفكوا من أسر العظماء وتحولوا من التمحور حول الأشخاص إلى التركيز على الأفكار والأفعال التي لا تكتسب أهميتها من الشخص وإنما من اقترابها من الحقيقة وتوافقها مع العدل واستنادها إلى الوقائع، فالتقييم للفكر أو الفعل ينبني على عناصر موضوعية أياً كان القائل أو الفاعل فلا تعظيم للشخص ذاته إلا بمقدار تواضعه وصدقه واعترافه الصريح بأخطائه وتحقق التطابق بين أقواله وأفعاله إن التعظيم ليس للشخص بشكل مطلق بل للفكر الناضج الذي يصدر عنه والرأي الحكيم الذي يقول به والأمانة الناصعة التي يلتزم بها ومهما كان علمه وصدقه وأمانته وموضوعيته فإن التعامل معه ليس على أنها كاملة ونهائية وإنما على أنها مجرد عون مطلوب للاقتراب من الحقيقة والعدل والصواب...
وبالنسبة لرجل العلم والفكر والرأي ليس مهماً شخصه وإنما الأهمية تتركز بالعناصر الموضوعية من قوله وفعله، لقد تحول الأوروبيون من الاهتمام بالأشخاص إلى العناية بالحقيقة والتعلق بها والسعي الحثيث لاكتشافها فلا يكون القول صواباً لمجرد أن فلاناً قاله وإنما يستند الحكم له أو عليه على مكوِّنات موضوعية مفصولة عن شخص لقد مجدَّوا الحقيقة الناصعة المجردة واستعادوا الثقة بأنفسهم واعترفوا بقيمته وشرءعنوا حقه في التفكير المستقل والاختيار الحر، لقد احتفظوا للعظماء بالاحترام والتقدير ولكنهم تخلوا عن تقديسهم وأعادوهم إلى بشريتهم وأيقنوا أن العظيم مثل غيره من البشر يخطئ ويتوهم ويجهل وتسيطر عليه عادات ذهنية وسلوكية، وقد يقوده هواه وقد ينصاع مع تعصبه وقد ينحاز قصداً وتلقائياً فعظمته لا تعني عصمته وإنما تتأسس على وجود مزايا لديه لكن هذه المزايا لا تعني التزكية المطلقة ولا الكمال التام بل إن أخطاء العظيم قد تكون فظيعة ومدمِّرة لأن ضررها يمتد في المكان والزمان وتتوارثها الأجيال بعد الأجيال وتؤثر على حياة أمة بأكملها وقد تهبط بالأمة إلى درك التنافر والاقتتال..
إن معرفة الحقائق والالتزام بها والعمل على ضوئها هي الغاية المجيدة التي تليق بالإنسان فلا يجوز حجب الحقيقة ولا حظر السعي إليها ولا منع استخدام كل الوسائل للكشف عنها ولا الحيلولة دون التأكد منها ولا يحق لأحد إحكام أطواق الوصاية في تحديدها ومنع مقارنة دعاوى امتلاكها إن الحقيقة أهم من الأشخاص مهما كانت مكانتهم فلا صلاح للناس ولا استقامة للأمور ولا ازدهار للحياة إلا بالوضوح والتفكير المفتوح والاعتراف لكل المكلفين بحقهم في الاستقصاء والتحقق وعدم إلزامهم بالطاعة العمياء لمن يتوهمون امتلاك الحقيقة المطلقة ويزعمون أن هذا الامتلاك المتوهم يخولهم الحق المطلق في الوصاية على الحياة والأحياء.
لقد نزع الأوروبيون عن قادة الفكر والفعل هالات التبجيل المفرط واستبدلوها بالتركيز على الحقائق والاهتمام بدقة الدراسة واستقصاء البحث وموضوعية التقييم وعَمَدوا إلى إبراز المحاسن والمساوئ وتأكيد جوانب القصور بالإضافة إلى جوانب التميُّز فيبقى العظيم عظيماً ولكن ضمن إطار النقائص البشرية. أما قبل يقظة المراجعة وخلال قرون السُّبات والاستسلام فكان الأوروبيون أسرى للسابقين وكما يقول الفيلسوف الانجليزي برتراند راسل في الجزء الثالث من كتابه (تاريخ الفلسفة الغربية): كانت سلطة أرسطو والكنيسة مُفحمة إفحام شهادة الحواس...!!!
لقد أثبت التاريخ وأكدت تجارب الأمم في الماضي والحاضر أن التمحور حول قادة الفكر والفعل الناتج عن الانغلاق الثقافي والاستبداد السياسي هو مصدر العقم وهو سبب الكلال. لقد ظل الأوروبيون قرونهم الراكدة والمظلمة يقدسون أرسطو وغيره من شوامخ الفلاسفة والمفكرين والمصلحين والدعاة وكانت سلطة الكنيسة لا تسمح بنقدهم ولا مراجعة أقوالهم فبقي الأوروبيون مأسورين بهم خاضعين لآرائهم مستسلمين لكل ما انتهوا إليه من أفكار وأحكام ورؤى واتجاهات ومواقف وكأنهم الكمال المطلق وأنهم البداية والنهاية أو كأنهم فوق مستوى البشر فما قالوه إثباتاً أو نفياً فهو الصواب المطلق الذي لا يتطرق إليه الشك ولا يحق لأحد وضعه موضع النقاش والنقد والتقييم والمراجعة وبذلك أوصد الأوروبيون على أنفسهم داخل أسوار بشرية أقامها أشخاص مثلهم فعطلوا بهذا الاستسلام عقولهم أجيالاً متعاقبة وبقوا يرددون أقوالهم بإجلال مُفرط وتقديس آسر ثم اكتشف مفكروهم العظام أن هذا التقديس لأقوال أفراد من البشر مهما بلغت عظمتهم هو السبب في عقم العقول وكلال الأعمال وتراجع العلم وتقهقر الحضارة وبؤس الحياة..
إن هذا التقديس للأشخاص من قادة العلم والفكر وهذا الاستسلام لرؤاهم ومواقفهم مخالف للمنهج النقدي الذي ابتكره وتوصَّل إليه أولئك الشوامخ أنفسهم فهم يؤكدون منذ البدء وعلى امتداد حيواتهم وفي كل جَدَلهم وكتبهم وما جرى تدوينه عنهم على ضرورة بقاء أبواب النقد مفتوحة وسُبل التصحيح مهيأة فلا نهاية لتجارب الحياة ولا حد لتطور القدرات وهذا يقتضي مواصلة التجاوز وتجدد التأسيس واستمرار الكشوف فالعلم ليس مجرد معلومات متراكمة وإنما هو تحقق وفحص ومراجعة واستقصاء وما جاز للسابقين يجوز للاحقين فكلهم مسؤولون عن التحقق ولا مزية لأحد سابق أو لا حق إلا بقدر إخلاصه للحق وقدرته على الاقتراب منه...
إن التحقق ليس سهلاً فلا تنجلي الحقيقة إلا للذين يكافحون من أجلها، فالتحقق جهد واستقصاء وتركيز وإخلاص واستعداد وتأهيل إنه شك بالسائد وشغف بكشف المجهول وتساؤل حاد عن مكونات المألوف إنه طريقة تفكير وأسلوب تناول ونشاط عقل وانتباه لعلاقات الأشياء فلم تكن فتوحات اليونانيين في المعرفة والاجتماع والسياسة قائمة على كثرة المعلومات وإنما على أسلوب فريد ومبتكر في النظر والتقييم فلقد اكتشفوا أن العقل البشري يبقى راكداً يردد الموروث ويستسلم للمألوف حتى يواجه بالتحدي والنقد والمساءلة، فالنقد الموضوعي هو دافع ارتقائهم وهو مصدر عظمتهم وإذا جرى التخلي عن منهجهم النقدي والاقتصادي على ترديد أقوالهم فإن ذلك يخالف قصدهم وهو نكوص عن أسلوب النظر عندهم، فكانت عودة النقد إلى الثقافة الأوروبية في العصر الحديث إحياءً للفكر اليوناني وليست ثورة عليه ولا إلغاء له...
كان فرنسيس بيكون في بريطانيا من أشهر قادة الفكر الذين قادوا حملة النقد على الموروث وواصلوا المطالبة بالانفكاك من أسره وهو لم ينكر أن هذا الموروث كان في زمنه عظيماً، ولكن مصدر عظمته أنه فكر نقدي لا يقبل الاستسلام الأعمى، فهو يفتح أبواب التحقق ولا يغلقها فكل اجترار لأقوال الشوامخ هو خروج عن منهجهم وإساءة لفهم مقاصدهم وتراجع عن الغاية التي استهدفتها أفكارهم فعظمة عقول الفلاسفة السابقين لا تلغي حق المفكرين في الأجيال اللاحقة في استخدام عقولهم وحقهم في تجاوز ما انتهى إليه أسلافهم فاللاحق لا بد أن يكون أوسع علماً من السابق بحكم تنامي الخبرة وتراكم المعرفة وابتكار منهاج جديدة في البحث والمحاكمة، فلا يوجد ما يبرر التوقف، لقد لاحظ بيكون أن تقديس العظماء الأوائل صار قيداً للعقل وخانقاً للعلم ومانعاً للتقدم، فأعلن بكل جرأة: "لا شيء أكثر بطلاناً أو أكثر تهوراً من معظم الأفكار المتلقَّاة" وبذلك هب العقل الأوروبي من غفلته واستيقظ من سباته وعَرَف حقيقة القيود التي تكبله وأدرك فداحة الخسارة التي لحقت به بسبب الاستسلام الطويل لهذه القيود فتوالت ضربات النقد لأفكار السابقين حتى انهار جدار التقديس مع الإبقاء على التقدير والاحترام لأرسطو وغيره من المرجعيات الشامخة بوصفه واحداً من أعظم مفكري الإنسانية، ولكن عظمته لا تخرجه من الإطار البشري المملوء بالنقائص، وبهذا التحرر من الأسر البليد انطلق العقل الأوروبي يفتح آفاق العلم ويؤسِّس لتحولات جذرية جديدة في كل منحى من مناحي الحياة الإنسانية...
ومن البداهات في الفكر الغربي أن النقد ليس انتقاصاً للعظماء بل هو نوع من مواصلة التمجيد فمن المعروف أنه في الثقافات المزدهرة يأتي النقد دلالة على التعظيم للمنقود فلولا الأهمية التي يستحقها والمكانة العالية التي يحتلها لكان نصيبه الإهمال، أما وقد كلّف النُّقاد أنفسهم عناء الدراسة لآثاره والتمحيص لأفكاره والمواجهة لرؤاه والنقد لتأثيره والمساءلة لكل ما انتهى إليه فإن هذا الاهتمام وحده دلالة الاعتراف بأهميته فلم يكن نقدهم لأرسطو تقليلاً من عظمته بل إن هذا النقد يعترف بأن فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أرسطو هم الذين أحدثوا ذلك التبادل الجوهري في التفكير البشري وهم الذين شقوا الطريق للإنسانية نحو الأمجاد الحاضرة، فهم الذين أسّسوا التفكير النقدي بعد أن اكتشفوا أنه مفتاح قدرات العقل وهم الذين أقاموا المعرفة على التمحيص والمواجهة بين الأفكار والمساءلة للأقوال وكما يقول روبير لونوبل: "حَدَثَ تبدُّل حقيقي في تاريخ العلم في القرن السابع عشر يمكن مقارنته بالتبدل الجوهري الذي حوَّل اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد وبالذي نعيشه مع اكتشاف النسبية والكوانتا" فالأوروبيون المحدثون يعترفون بكل وضوح بعظمة التراث اليوناني ويؤكدون أنهم تعلموا من ذلك التراث العظيم والفريد وأنهم بما أنجزوه من تبدُّل في طريقة النظر ليسوا سوى تلامذة لأولئك اليونانيين الأفذاذ الذين ابتكروا منذ القرن الخامس قبل الميلاد تبدلات جوهرية في استخدام العقل الإنساني وليس أدل على هذه التلمذة الشاكرة الممتنَّة من أن الأوروبيين المحدثين يكتفون بأن ثورتهم على الاجترار تقارن بالتبدل الجوهري الذي أنجزه اليونانيون...
أهاب بيكون بالإنسان كي لا يظل أعمى مأسوراً بأقوال السابقين وطالب العقل بأن يتعرَّف إلى الأشياء ليس بالرجوع إلى ما قيل عنها بل بأن يمتحنها بعقله النافذ وفحصه الدقيق وتجربته المباشرة، وكما يقول ميشال دوفيز في كتابه (أوروبا والعالم): "العقل والتجربة هما الصفتان البارزتان للعالم اللتان أبرزهما فرنسيس بيكون في النظام الجديد.. بيكون يرفض في الميدان العلمي السلطة القدسية.. الشك الديكارتي يصدر عن هذه الحالة الذهنية ذاتها، هذا الموقف كان له أن يستتبع إعادة نظر كاملة في المفاهيم المتلقَّاة.. القرن الثامن عشر بجرأة يمرِّر في غربال العقل كلَّ الأفكار المعترف بها من قديم.. لا جدال في أن انطلاق العقلانية أعطى الأوروبيين تفوقاً جديداً بتحريره العلم من القيود التي كانت تعيق تقدماته"، وهكذا استجابت أوروبا لمفكريها فخلصوها من تقديس الأشخاص وأطلقوا عقلها من عقاله ليفكر بنفسه لنفسه فحدثت يقظة شاملة وعارمة وشاعت هذه الحالة الذهنية حتى باتت المراجعة حقاً متاحاً يمارسه كلُّ القادرين فاستنارت العقول ونشطت الأذهان وتضافرت الجهود واستشعر الناس مسؤوليتهم في التحقق والتمحيص وتوارت المداهنة ولم يعد الناس مضطرين للنفاق والإخفاء وصاروا يستنكفون من التقليد الأعمى وعمَّت أفكار التوثُّب وأحسَّ الجميع بالثقة والأمان واختفى الإرهاب الفكري وساد الوضوح وأصبحت الشفافية مطلب الكل وحق الجميع..
إن كل هذا الفيض من النقد والنقد المضاد وجدل الأفكار وحراك الأوضاع وصراع الاتجاهات وتنافس الأحزاب إن كل هذا قد أدى إلى أنسنة السلطة وتطبيع العلاقات بين القادة والعامة وإزالة الهالات وتقليص الفروقات وأوجد في الغربيين حساسية متناهية ضد قوة السلطة فأصبحوا لا يسمحون لفرد مهما تناهت عظمته ومهما كان نفعه لهم أن يشعر أنه مختلف عن أفراد المجتمع فيبلغ درجة التسلط وباتوا لا يعلقون مصيرهم بمقدرة فرد واحد مهما بلغت عبقريته لذلك فإنهم لا يسمحون لأي إنسان أن يستمر على قمة الهرم الاجتماعي حتى ولو كان هذا الاستمرار بواسطة الاقتراع العام تحاشياً لتركيز السلطة وتجنباً لعودة شيء من الاستبداد وسداً لذريعة التعلق بفرد...
وقد تنبَّه الغرب لهذا المعنى منذ أيام الإغريق حتى إن أفلاطون في كتابه (الجمهورية) يرى أن أشد الشعوب غفلة وحماقة هو الشعب الذي يسمح لأي فرد بتأكيد سلطته حتى يصبح "أقوى من أن يستطيع الشعب أن يطرده" وقد أثبت التاريخ للأوروبيين صحة مقولة أفلاطون فقد سقطت أوروبا في ظلمات العصور الوسطى حين فرَّطت بهذا المبدأ فقدَّست الأشخاص وانقادت لسلطة الكنيسة وخضعت للأباطرة فَفَقَدَت القدرة على التفكير الناقد وظلت تتلقى باستسلام وتجتر ببلادة وتردد ببغائية ولكنها ما أن استعادت ذاتها وفكّرت باستقلال وتفتُّح حتى كسبت الرهان الأكبر.. رهان الحرية والكرامة والتقدم والازدهار...
ولم يتركوا هذا الإنجاز العظيم معرضاً للتحايل أو التساهل أو للالتفات أو الاجتهاد وإنما حموه بدساتير حاسمة وبمؤسسات مدنية قوية وبصحافة حرة ساهرة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية نصَّ الدستور الأمريكي على استحالة التجديد للرئيس أكثر من ثماني سنوات حتى أن ريغان حين كان في ذروة شعبيته لم يستطع تغيير هذه المادة من الدستور فصار محالاً عليه أن يترشَّح فترة رئاسية ثالثة، وتشرشل هزم هتلر في الحرب العالمية الثانية وحقق لبريطانيا نصراً عظيماً كاسحاً لكنه سقط في أول انتخابات عامة أعقبت الحرب، وكذلك فعل الفرنسيون حين انحازوا في الانتخابات لمنافس ديجول رغم أنه أنقذ فرنسا من الاحتلال الألماني وقاد فرنسا بحكمة فريدة غير أن الشعوب الأوروبية تعلّمت أن لا تركن لإنسان فرد مهما تألقت عبقريته فرفعت القداسة عن البشر ولم تسمح لأحد أن يستثمر حتى انتصاراته الباهرة من أجل أن لا يتحوَّل إلى مستبد فهي تحتفظ له بالاحترام وتلتزم بتكريمه لكنها تُنحِّيه قبل أن يستفحل أمره فلا مكان في الثقافات الأوروبية للقائد المنقذ ولا للزعيم الأوحد ولا للبطل الملهم ولا للعالم الفريد الذي ما رأى مثل نفسه!!!...
في الغرب يندفع الناس خلف نجوم الكرة أو التمثيل أو الغناء وأمثالهم من الذين لا يتحملون مسؤوليات عامة ولا علاقة لهم بإدارة أمور الناس، أما المكلفون بشؤون المجتمع فإنهم كلما عظُمَتء مسؤولياتهم اشتد النقد لهم والسخرية بهم والتنكيت عليهم ومن يدخل إلى الإنترنت يرى صوراً مضحكة للرئيس الأمريكي الحالي بوش، فلا حصانة لأحد من النقد وبعد عام سيعود بوش مواطناً عادياً رغم كل ما أثاره في الدنيا خلال سنواته الثماني من حروب وصخب
Comment