لـ جون ميتشم (1)
كتابات - ترجمة / غسان نامق
لقد هـَبَطـَتْ نسبة المسيحيين المتديّنين بمقدار 10 نقاط في العـَقـْدَين الماضيَين. فكيف تفسِّر هذه النسبة الإحصائية هويّتـَنا الآن – وما الذي سنصبح عليه كأمة.
(1)
كانت إشارة ً بسيطة، نقطة مقارنة مدفونة في ثنايا الفقرة الخامسة في الصفحة 17 من التقرير الموجز المتكون من 24 صفحة حول الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية لعام 2009. ولكن وفقاً لقراءة آر ألبرت مولر جَيْ آر – رئيس المعهد اللاهوتي المعمداني الجنوبي، وهو واحد من أكبر المعاهد من نوعه على وجه الآرض – وفقاً لقراءته للوثيقة بعد إطلاقها في شهر آذار / مارس، فقد صَعَـقـَتـْه جملة واحدة فقط. فبالنسبة لمؤمن مثل مولر – وهو المسيحي المحافظ والمتشدّد، والمتشبّع بلاهوت عقيدته، والمكرّس لتكوين كهنة يبشـّرون بعصمة إنجيل يسوع المسيح بوصفه السبيل الوحيد لنيل الحياة الأبدية – كان الخبر الرئيسي مثيراً للإزعاج بما فيه الكفاية: فعَدَدُ الأمريكان غير المُنتمين دينياً قد تـَضاعَف تقريباً منذ عام 1990، حيث ارتفع من 8 إلى 15 في المائة. ثم جاءت النقطة التي لم يتمكن من إزاحتها من ذهنه: بينما كان غير المنتمين يتركزون تاريخياً في الشمال الغربي المُطِلِّ على المحيط الهادئ، قال التقرير: "لقد تغيّر هذا النمط الآن، فظهر الشمال الشرقي عام 2008 معقلاً جديداً لغير المنتمين دينياً." ووفقاً لرأي مولر، فالأساس التاريخي للثقافة الدينية في أميركا آخِذ ٌ بالتصدع.
قال لي في الأسبوع الماضي: "لقد صَدَمني ذلك حقاً." ثم أضاف: "لم يكن الشمال الغربي متديّناً ومنتظماً في الكنيسة بقدر الشمال الشرقي الذي كان أساس وموطن الديانة الأمريكية. لقد صعقني فقدان نيو إنجلند لأنه أمر خطير." وبعدما قلـّبَ مولر التقرير في ذهنه، نـَشـَر عموداً يائساً على الإنترنت ليلة أسبوع الآلام يندب فيه ذلك الهبوط – وضمنياً، السقوط الوشيك – لأميركا التي تشكـّلت وتلوّنت بالمسيحية. فكتب قائلاً: "لقد حدث حولنا تحوّلٌ ثقافي كبير." ثم أردف: "لقد تغيّرَت الخطوط الأساسية للثقافة الأمريكية تغيّراً جذرياً. فذلك الإجماع اليهودي المسيحي المعروف في الألفية الماضية قد تـَنـَحّى لتحلَّ محلـّه أزمة ثقافية ما بعد حداثية وما بعد مسيحية وما بعد غربية تهدّد قلب ثقافتنا." وعندما تحدّثتُ مع مولر في الأيام التي تـَلـَتْ كتابته لتلك السطور، كانت كآبته قد إزدادت أكثر. ومن مكتبه في المعهد في لويزفيل، كنتكي، قال: "من الواضح أن هناك حكاية جديدة، حكاية ما بعد مسيحية، تـُحرِّك جانباً كبيراً من هذا المجتمع."
تلك هي المسألة، مصطلح قديم بمطالب جديدة: ما بعد المسيحية. هذا لا يعني أن نقول أن الإله المسيحي قد مات، بل أن قوّته في السياسة والثقافة الأمريكيتين قد تدنـَّت عما كانت عليه في أي حقبة من الذاكرة السابقة. ولِدَهشة الليبراليين الذين يخشون قدوم ثيوقراطية إنجيلية، ولخيبة المحافظين المتديّنين الذين يتوقون لرؤية عقيدتهم بادية بشكل أكبر في الحياة العامة، فإن المسيحيين يشكـّلون الآن نسبة متناقصة بين الأمريكيين.
واستناداً إلى الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية التي لفتت إنتباه مولر فإن نسبة المسيحيين المتدينين قد هبطت بمقدار 10 نقاط في المائة منذ عام 1990، من 86 إلى 76 في المائة. نسبة اليهود هي 1.2 في المائة ونسبة المسلمين هي 0.6 في المائة. وقد رَدَّدَ إستفتاء منتدى بيو Pew Forum المستقل النتائج التي توصّلت إليها الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية، حيث ذكر أن نسبة الذين يقولون أنهم غير منتمين لأية عقيدة محددة قد تضاعفت في السنين الأخيرة إلى 16 في المائة. ومن ناحية التصويت، فقد تنامت هذه الفئة من 5 في المائة عام 1988 إلى 12 في المائة عام 2008 – وهي تقريباً ذات نسبة جمهور الناخبين من الأمريكان الأفارقة. (خمس وسبعون في المائة من الناخبين غير المنتمين إختاروا باراك أوباما، وهو مسيحي.) وفي الوقت نفسه فإن عدد الراغبين في وصف أنفسهم كمُلحدين أو لاأدريين قد إزداد حوالي أربعة أضعاف من عام 1990 حتى عام 2009 وذلك من مليون واحد إلى 3.6 مليون تقريباً. (وذلك حوالي ضعف عدد الأسقفيين البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً.)
وبينما نبقى أمة تتشكـَّل بالعقيدة الدينية على نحو حاسم، إلا أن سياستنا وثقافتنا في الأغلب أقل تأثراً بحركات ومناظرات ذات صفة مسيحية واضحة مما كانت عليه حتى قبل خمس سنوات. وأنا أرى أن هذا أمر جيد – جيد لثقافتنا السياسية التي، كما رآها المؤسسون الأمريكان، معقـّدة ومشحونة بما فيه الكفاية بدون محاولة فرض العقيدة الدينية أو الإلتزام الديني. وهو أمر جيد للمسيحية كذلك، من حيث أن العديد من المسيحيين يُعيدون إكتشاف فضائل الفصل بين الكنيسة والدولة، ذلك الفصل الذي يحمي ما أطلق عليه روجر وليمز، مؤسس جزيرة رود لتكون ملاذاً للمنشقـّين الدينيين، إسم "حديقة الكنيسة" في "برية العالم." وعلى الرغم من أن الدين كان وما يزال أمراً حاسماً في حياة البلاد، إلا أن القوة التي توحِّد أميركا لم تكن عقيدة محددة أبداً، بل الإلتزام بالحرية – وليس أقلـّها حرية الضمير. فنحن في أحسن أحوالنا لا نـُفرد الدين لمساعدة معيّنة ولا لأذىً معيّن، فلطالما كنا نعامل المناظرات القائمة على أساس العقيدة بوصفها عنصراً واحداً من بين عناصر عدة في مجال المناقشة والقرار. إن إضمحلال وسقوط فكرة الحقوق الدينية الحديثة في أميركا المسيحية يخلقان بيئة سياسية أكثر هدوءاً وقد يساعدان، كما يرى العديد من المؤمنين، على فتح الباب أمام حياة دينية أكثر جدية من الناحية اللاهوتية.
لنكن واضحين: بينما قد تكون نسبة المسيحيين آخذةً في الإنكماش، فإن الإشاعات التي تدور حول موت المسيحية مبالـَغٌ فيها جداً. فإذا كانت أميركا أقل مسيحية ً فإن هذا لا يعني بالضرورة أنها ما بعد مسيحية. فثـُلـُث الأمريكان يقولون أنهم يولدون مرة أخرى. إن هذه النسبة، بالإضافة إلى هبوط المعتدلين سياسياً وتحولهم إلى بروتستانت ليبراليين متشددين، جعل واضعي الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية يلاحظون بأن "هذه الإتجاهات . . . توحي بالإنتقال إلى عقائد محافِظة ً أكثر ولا سيما إلى نظرة أكثر ‘إنجيلية’ في ما بين المسيحيين." ومع الأعداد المتزايدة من المهاجرين الهسبانيين المناصرين للكنيسة الرومانية الكاثوليكية في أميركا، ومع شيوع المؤمنين بعيد العَـنصَرة، ومع البيئة المسيحية سريعة النمو في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم، فما من شك في بقاء الأمة متديّنة بشكل كبير – أكثر من أوربا على سبيل المثال.
ومع ذلك، وفي إستفتاء نيوزويك الجديد، فإن عدد الذين ينظرون للولايات المتحدة الأمريكية الآن على أنها "أمة مسيحية" أقل مما كانوا عليه عندما كان جورج دبليو بوش رئيساً (62 في المائة عام 2009 مقابل 69 في المائة عام 2008.) ويقول ثلثا العامة (69 في المائة) الآن بأن الدين "يفقد نفوذه" في المجتمع الأمريكي، بينما يقول 19 في المائة فقط بأن نفوذ الدين يتزايد. أما نسبة الأمريكان الذين يعتقدون بأن الدين "يستطيع الإجابة عن جميع أو معظم مسائل اليوم" فهي منخفضة حالياً بشكل تاريخي بحيث تـَدنـّتْ إلى 48 في المائة. وكانت هذه النسبة في فترة حكم بوش 43 في المائة. أما في سني حكم كلنتون فإنها لم تنزل أدنى من 58 في المائة.
يرى العديد من المسيحيين المحافظين أنهم قد خسروا المعارك حول قضايا مثل الإجهاض وأداء الصلوات في المدارس وحتى زواج المثليين، وأن البلاد قد دخلت الآن مرحلة ما بعد المسيحية. لقد كتب كرستوفر هتشنز – أحد أصدقائي وربما كان المُحرِّض الأكثر سحراً من بين الذين تقابلهم في حياتك – كراسة حول الإلحاد نالـَتْ شعبية واسعة قبل بضع سنوات، عنوانها "الله ليس عظيماً." وبما إنني عضو ملتزم في الكنيسة الأسقفية البروتستانتية (حتى لو كان لديّ الكثير من الأخطاء) فإنني أختلف مع العديد من مناظرات هتشنز – لا أظن من الأمور المُجدِية أن نـُلغي الإعتقاد الديني على أنه خاطئ ومليء بالخرافات – غير أنه رجل ذو نزاهة علمية شديدة ذََكـَر أنه، في رحلة إلى تكساس قام بها مؤخراً، سمع غمغمات إنجيلية حول ظهور أميركا "ما بعد مسيحية."
(2)
تعدّدتْ معاني ما بعد المسيحية في الأزمنة المختلفة. ففي عام 1886 أطلقتْ مجلة "ذي أتلانتك منثلي" على جورج إليوت صفة ما بعد المسيحية، حيث إستعملت المصطلح كمُرادف للإلحاد أو اللاأدرية. أما التعريف الأعرض – والأكثر إرتباطاً بأغراضنا في هذا المقال – فهو أن "ما بعد المسيحية" تـَصِفُ فترة زمنية تـَعْـقِبُ هبوط أهمية المسيحية في منطقةٍ ما أو في مجتمع ٍ ما. وقد ظهر هذا الإستعمال للعبارة للمرة الأولى في كتاب "أميركا المُحرَّرة" للفيلسوف الألماني هيرمان كيزرلنج عام 1929.
وقد شاع إستعمال المصطلح في أثناء ما يَصطلح العلماء على تسميته بحركة "موت الله" في أواسط ستينيات القرن العشرين – وهي حركة ما تزال قائمة. فبناءاً على إعلان نيتشة في القرن التاسع عشر بأن "الله قد مات"، رأتْ مجموعة من اللاهوتيين البروتستانت بأنه ينبغي على المسيحية البقاء على قيد الحياة بشكل أساسي من دون المفهوم الأرثودوكسي لله. وكان توم ألتيزر، وهو بروفسور الأديان في جامعة إيموري، عضواً أساسياً في حركة المسيحية بلا إله، وهو يُعيد جذورها الفكرية إلى كيركيجارد أولاً ومن ثم إلى نيتشة. ويرى ألتيزر أن العصر ما بعد المسيحي تكون فيه "المسيحية والدين ذاته متحرِّرَيْن من أُسُسهما التاريخية السابقة." وفي عام 1992 نشر الناقد هارولد بلوم كتاباً بعنوان "الدين الأمريكي: ظهور الأمة ما بعد المسيحية" الذي يورد فيه تعريف وليم جيمس للدين في "أنواع التجربة الدينية": "الدين . . . يجب أن يعني بالنسبة لنا مشاعر وأفعال وخبرات الأفراد في عـُزلتهم بقدر ما يَعون أنفسهم فيما يتعلق بكل ما يرونه مقدّساً."
هذا بالتحديد هو ما يزعج مولر أكثر من أي شيء آخر. لقد قال لي: "حكاية ما بعد المسيحية مختلفة إختلافاً جذرياً. إنها تـَعرض علينا الأمور الروحية، أياً كان تعريفها، ولكن بدون سلطة مُلزمة." وأضاف: "إنها تقوم على فـَهْم ٍ للتاريخ يَفترض ماضياً أقل تسامحاً ومستقبلاً أكثر تسامحاً، مع إعتبار الحاضر خطوة ً إنتقالية ً هامة." فالحاضر بهذا المعنى متعلق بولادة آلهة متعددة أكثر من تعلقه بموت الله. إن الأعداد المتزايدة من الأمريكان غير المنتمين دينياً تشير إلى أناس يميلون لوصف أنفسهم بـ "الروحانيين" أكثر من مَيلهم لوصفها بـ "المتديّنين." (في إستفتاء نيوزويك الجديد وصف 30 في المائة أنفسهم على هذه الشاكلة حيث صعدت النسبة من 24 في المائة عام 2005.)
وإذا وضعنا الحكاية المسيحية بشكل تقريبي فإنها قصة البشرية وفقاً لتسلسلها الزمني في الكتاب المقدس العبراني وفي العهد الجديد – أي دراما الخلق والسقوط والخلاص. يميل الأورثودكس إلى محاولة عَيْش حياتهم وفقاً للمبادئ السلوكية العامة للكتاب المقدس (أو على الأقل، المبادئ التي يجدونها هناك ويستحسنونها) والمشاركة في الحكم النهائي لله – الحكم الذي يمكن أن يقرر فيما إذا كانوا سيقضون الحياة الأبدية في الجنة أم الجحيم.
فما معنى الحديث إذن عن "أميركا مسيحية"؟ لطالما إعتقد المسيحيون الإنجيليون بأن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تبقى أمة ً تقوم حياتها السياسية على تأويل مبادئ الكتاب المقدس والمبادئ اللاهوتية وتكون محكومة بهذه المبادئ. فإذا عَدّت الكنيسة ُ الشـُربَ خطيئة ً، على سبيل المثال، عندئذٍ يجب على قوانين الولاية أن تـَحْظـُر إستهلاك الكحول. وإذا رأت الكنيسة أن نظرية النشوء تتناقض مع القراءة الحرفية لسفر التكوين، عندئذٍ يجب على المدارس العامة أن تـُكيّف دروسها وفقاً لذلك. وإذا رأت الكنيسة أنه يجب حظر الإجهاض، عندئذٍ يجب على المجالس التشريعية والمحاكم أن تحذو حذوها. إن شدة الشعور بالمدى الذي يجب أن تكون عليه الأمة ُ مسيحية ً قد إنحسر وارتفع منذ جيمستاون. فلا جديد تحت الشمس كما يقول الكتاب المقدس. ولمدة تزيد على 40 سنة فإن النقاش الذي إبتدأ مع قرار المحكمة العليا بإنهاء الأداء الإلزامي للصلوات في المدارس عام 1962 (والذي إزداد مع قرار "رو ضد ويد"(2) Roe v. Wade بعد 11 سنة) قد لايكون جديداً، غير أنه كان بالغ الشدة. وخشية ظهور دولة علمانية شبيهة بأوربا فإن اليمين كان يتوق إلى تصميم عَوْدةٍ إلى ما يراه أميركا المسيحية في الأيام الخوالي.
غير أن المشروع فشل، على الأقل في الوقت الحاضر. ففي تكساس قررت السلطات الإنحياز إلى العلم، وليس اللاهوت، في النزاع حول تدريس نظرية النشوء. كما إن الأوقات العصيبة إقتصادياً لم تؤدِّ إلى زيادة الذهاب إلى الكنائس. ويوم الجمعة الماضية قضت المحكمة العليا في ولاية آيوا ضد حظر زواج المثليين، وهذا يُعَدُّ هزيمة للمحافظين الدينيين. هذه الأدلة هي التي جعلت المؤمنين يغتاظون من إمكانية قدوم عصر تهيمن عليه علمانية جديدة قوية. يقول مولر: "إن التعاليم الأخلاقية للمسيحية قد مارست نفوذاً كبيراً على الحضارة الغربية." ويضيف: "ومع تلاشي تلك التعاليم الأخلاقية من الذاكرة الثقافية فإن أخلاقيات مُعَلمَنة تـَحلُّ محلـّها. وإذا هَجَرَت نسبة كبيرة من السكان الديانة المسيحية فلابد أن يتغير الوضع الأخلاقي العام. وفي معظم القرن العشرين قادت أمم أوربا الغربية الركب في ترك الإلتزامات المسيحية. وقد فسحت الأفعال الإنعكاسية والمبادئ الأخلاقية المسيحية المجال أمام تراخي قبضة الذاكرة المسيحية. أما الآن فحتى تلك الذاكرة المسيحية غائبة من حياة الملايين."
ومن ناحية أخرى، فلطالما كان الشك والتنوّع الدينيين أمرَيْن أمريكيين أساساً. قال أليكسز دو توكفيل بأن "الجو الديني للبلاد كان أول ما لـَفـَتَ إنتباهي عند وصولي الولايات المتحدة الأمريكية." ولكنه إكتشف كذلك "عمقاً كبيراً من الشك واللامبالاة" بالعقيدة. وقد إلتقط جيفرسون مسبقاً جوهر الروح الأمريكية بشأن الدين وذلك عندما لاحظ بأن قانونه الخاص بالحرية الدينية في فرجينيا كان "المقصود منه أن يستوعب، تحت عباءة حمايته، اليهودي وغير اليهودي، المسيحي والمسلم، الهندوسي وغير المؤمن من كل الطوائف" – وأولئك الذين ليست لهم أية عقيدة كانت. لقد ساعدت الثقافة الأمريكة الخاصة بالحرية الدينية على خلق سوق حرة مزدحمة للأديان: بالتوقف عن تأييد الكنائس، فإن الأمة جعلت الدين أكثر شيوعاً، وليس أقل شيوعاً.
إذن، أميركا ليست مجتمعاً ما بعد ديني – ولا يمكن أن تكون كذلك طالما كان فيها ناس، وذلك لأن الإيمان حِسٌّ إنساني فطري. إن الإيمان بنظام أو بحقيقة ما وراء الزمان والمكان أمر قديم وباق ٍ. فقد قال هوميروس: "كل الناس يحتاجون الآلهة." غير أن السؤال السياسي والثقافي الجوهري هو إلى أي مدى ينبغي على أولئك الآلهة – أو بشكل أدق، فـَهْمُ جيل معيّن لأولئك الآلهة – تحديد طبيعة الحياة في زمان ومكان مُحدَّدَيْن.
وإذا أخذنا إختباراً أغسطينياً خاصاً بالإنتماء إلى الأمة وطبّـقناه على أنفسنا فإننا سنجد أن الحرية، وليس الدين، هي ما يوحّدنا. ففي "مدينة الله" قال أغسطين – المذنب المهتدي وأسقف هيبو Hippo – أنه يجب تعريف الأمة على أنها "حَشـْدٌ من البشر العقلانيين يجمعهم إتفاق مشترك بشأن مواضيع حبهم." وهكذا فإن ما نعطيه قيمة أكثر من غيره – ما نحبه جميعاً أكثر من غيره – هو الإختبار الأساسي للعقد الإجتماعي.
(3)
إذا أصدرنا حكماً بالإستناد إلى الشكل الواسع للحياة الأمريكية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سنرى أننا نـُقدّر الحرية الفردية والمشاريع الحرة (أو الحرة إلى درجة كبيرة) وأننا نميل إلى مذهب الحرية في قضايا الأخلاق الشخصية. أما الوثائق التأسيسية فهي إعلان الإستقلال والدستور، وليس الكتاب المقدس العبري والعهد الجديد (على الرغم من وجود روابط لا يمكن إنكارها في ما بينهم). هذا السبيل في الحياة يختلف إختلافاً كبيراً عما يطمح إليه العديد من المسيحيين المحافظين بشكل علني. لكن تلك هي قوة النظام الجمهوري الذي وضعه جيمس ماديسون في نهاية القرن الثامن عشر: بقاء أميركا مرتبط إرتباطاً مباشراً بقدرتها على وضع حد للتطرف والحفاظ على أكبر قدر من الحرية الشخصية. يجب على المؤمنين المتدينين أن يرحبوا بهذا، فالحرية لطائفة واحدة تعني الحرية لكافة الطوائف. وكما قال جون فتزجيرالد كندي في خطابه أمام جمعية هيوستون الوزارية الكبرى عام 1960: "بينما قد يكون في هذه السنة كاثوليكياً تتجه إليه أصابع الشك، فقد كان في سنين أخرى، وربما سيكون ثانية ً يوماً ما، يهودياً – أو كويكر – أو موحّداً – أو معمدانياً . . . اليوم قد أكون أنا الضحية – ولكن غداً قد تكونون أنتم – حتى يتمزق نسيج مجتمعنا المتجانس كلـُّه."
لقد كان الدين أحد العوامل في الحياة والسياسة الأمريكيتين منذ البداية. فقد كانت الشعائر الأنجليكانية إلزامية في جيمستاون، كما كان البيوريتانيون في نيو إنجلند يأملون بشكل صريح إقامة قدس (أورشليم) جديدة. غير أن الإيمان القسري لا يُعَدُّ إيماناً على الإطلاق، بل هو إستبداد. قال روجر وليمز: "أوصي بأن لا يتجه الإنسان، سواء كان يهودياً أو مسلماً أو معمدانياً أو أياً كان، بغير الإتجاه الذي يُمليه عليه ضميره."
في زمن التأسيس الأمريكي كان رجال من مثل جيفرسون وماديسون يَرَون الفضيلة تكمن في ضمان حرية الضمير، وكان أحد الإنجازات البارزة للجمهورية الفتية هو خلق بيئة إمتزج فيها الدين والسياسة، غير أن الكنيسة والدولة لم يمتزجا. وكانت فكرة المؤسسين هي أنه قد يحاول المرء إقامة جدار بين الإقتصاد والسياسة مثل الجدار القائم بين الدين والسياسة، حيث أن كِلـَيْهما يدوران حول ما يشعر به الناس وكيفية رؤيتهم للعالم. دَع المتديّنين يأخذون مكانهم في ساحة السياسة والأفكار لوحدهم، وقاتِلْ من أجل آرائهم على قدم المساواة مع كافة المصالح الأخرى. إن الحياة الأمريكية العامة لا هي علمانية بالكامل ولا هي دينية بالكامل، بل هي مزيج سَلِسٌ من الإثنين. ويقول التاريخ أن المشاكل تظهر عندما تصبح إحدى هاتين القوتين أقوى من الثانية.
لذا فالإنتصارات السياسية في جوهرها أمرٌ عابر. ففي منتصف القرن التاسع عشر قال الإنجيلي تشارلز جرانديسون فيني: "إن عمل الكنيسة الكبير هو إصلاح العالم – إزاحة كل نوع من أنواع الخطيئة." كما قال: "إن المسيحيين مُلزَمون بممارسة نفوذهم من أجل ضمان وضع تشريع يتوافق مع شريعة الله."
يميل النجاح الدنيوي إلى تأشير بداية نهاية التديّن المكشوف في السياسة. فقد كان يُنظـَر للحظر مبدأياً على أنه نصر أخلاقي كبير، إلا أن فشله وإلغاءه النهائي يشيران إلى أنه يجب على أية حركة أن تنتبه لما ترغب فيه: في أميركا، تميل إرادة الأغلبية العريضة إلى الفوز حتى على المصالح الضيقة الأكثر إخلاصاً.
ومع إنقضاء القرن العشرين وجد المسيحيون أنفسهم في موقف غير مثير للجدل نسبياً في مواجهة "شيوعية ملحدة"، وكان يبدو أن حدة الحظر(3) وعصر محاكمة سكوبس Scopes(4) قد خفـّت قليلاً. كما إن قضايا الأخلاق الشخصية، وليست السياسة الدولية، وَضَعَت أسس الحملة الرامية إلى أميركا مسيحية نعرفها بصيغة ظهور اليمين المتديّن. وكانت ظاهرة الطلاق في ستينيات القرن العشرين وقرار رو Roe عام 1973 أمرَيْن حاسمَيْن، أما إيمان جيمي كارتر المتجدّد فقد جعل المسيحية الإنجيلية في المقدمة عام 1976.
لقد أحسّ جو سكاربورو، وهو المعلـّق وعضو الكونغرس السابق عن الحزب الجمهوري والذي نشأ في أطلانطا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أحسّ بمخاوف والدَيْه الإنجيليين وأصدقائهما – وهي المخاوف التي ساعدت في حشد الدعم لحركة أميركا المسيحية المحافظة سياسياً. يقول سكاربورو: "كان القلق الكبير في وسط أميركا هو أننا كنا محاصَرين – كان والداي يَرَيان الأولاد يسيرون في الشارع وقد كانوا كشـّافة ً قبل ثلاث سنوات ثم فجأة ً صاروا يشبهون الهيبيز، وكانوا خائفين." ويردف قائلاً: "من الناحية الثقافية، كان أكتوبر 2001 بمثابة عقد من الزمن. بمثابة عقد من الزمن فعلاً. وعندما أدرك أباؤنا أننا لن نختفي في المخدرات والتطرّف فإن الضغط خَفَّ. ذلك هو العالم الذي نحن فيه الآن – آباء الأبناء الناجحين الذين ماكانوا ليشربوا كأساً من الخمر قبل 30 سنة نراهم الآن يشربون الفودكا. بشكلٍ ما، لقد تحرّروا."
كما إنهم تعلـّموا أن السياسة لا تـُقدِّم كافة الإجابات – إنه درس كان يميل، مع نوع من الإرتياح من توترات الإضطرابات الثقافية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، يميل إلى كبح جماح الحماس السياسي المُلهَم دينياً. يقول مولر: "كان أسوأ خطأ من أخطاء الإنجيليين من الناحية السياسية طوال السنين الثلاثين الأخيرة هو السذاجة غير المعقولة في ما يتعلق بالسياسة والسياسيين والأحزاب." ويضيف قائلاً: "فقد إستثمروا الكثير من الأمل في إيجاد حل سياسي للقضايا والمشاكل التي تتجاوز السياسة. فلو كـُنـّا في موقف ذي طابع أوربي أكثر حيث غالباً ما تختلف الأحزاب حول المسائل السياسية التقليدية أكثر من إختلافها حول المسائل الأخلاقية، أو لو كانت أحزابنا أكثر، لكانت لدينا عندئذٍ صورة مختلفة تمام الإختلاف. ولكن عندما إرتبط الإجهاض والمفهوم الأخلاقي للصلاح الإنساني بحزبٍ واحد، لم يتبقّ لدى المسيحيين سوى القليل من الخيارات سياسياً."
وعندما فشل ذلك الحزب في تحقيق الخلاص – وقد فشل فعلاً – تمثـّلت إستجابة البعض في الحركة بالإنكفاء إلى التطرّف وذلك لقناعتهم بِشـَرِّ وفساد العالم السياسي الذي تـَسَـبَّبَ لهم بهزيمة بعد أخرى. (لقد حدث الأمر ذاته للعديد من الليبراليين بعد عام 1968: فبسبب غيظ اليسار من المزاج المحافظ السائد في البلاد، تميّز رد فعله بالغضب وزاد إتجاهه إلى اليسار.)
(4)
كان الكاتب كال توماس إحدى الشخصيات التي رأتْ مبكراً بأن الحركة الأمريكية المسيحية تنطوي على خطأ قاتل من وجهة النظر اللاهوتية، حيث يقول: "لا تستطيع أية دولة أن تكون ‘مسيحية’ حقاً. الناس فقط هم الذين يستطيعون ذلك. إن الله فوق كل الأمم، وفي الواقع يقول أشعيا أن ‘كل الأمم ليست بالنسبة له سوى قطرة في الدلو وأقل من لا شيء’." وبعودة توماس في تفكيره عبر عقود من الزمن فإنه يستذكر الأمل – والفشل. "كنا نمرُّ في مرحلة تنظيم الناس ذوي العقول المتماثلة لـ ‘إعادة’ أميركا إلى زمن ٍ ذي أخلاقيات أعلى. وبالطبع لم يكن ليقوم بذلك سوى السياسيون الذين عانوا من فترة عصيبة في فرض الأخلاقيات على أنفسهم!"
ويظهر من التجارب أن السلطات الدينية ذاتها يمكن أن تتعرض للفساد من خلال مجاورتها للسلطة السياسية. وقبل ربع قرن نشر ثلاثة علماء يعتنقون المسيحية الإنجيلية كذلك – مارك أي نول وناثان أو هاتش وجورج إم مارسدن – نشروا كتاباً هاماً ولكنه لم ينل من الإنتشار إلا النزر اليسير، وهو كتاب "البحث عن أميركا مسيحية." وهم يقولون في هذا الكتاب أن دعاوى المسيحية تسمو فوق أي نظام سياسي. ويقولون أن المسيحيين "لا ينبغي أن تكون لديهم أوهام حول طبيعة الحكومات البشرية. فـَهُم في آخر الأمر ينتمون لما يُطلق عليه أُغسطين إسم ‘مدينة العالم’ التي تحكم فيها المصلحة الشخصية . . . وكل الحكومات يمكن أن تكون قـَتـَلة متوحشين."
تتساوق نظرتهم هذه مع نظرة النبي داود صاحب المزامير الذي قال: "لا تضع ثقتك في الأُمراء." كما يوجد الكثير من أدلة العهد الجديد التي تدعم رؤية العقيدة والسياسة حيث تكون فيها الكنيسة أصدق ما تكون بشأن رسالتها الجوهرية عندما تكون أبعد ما تكون عن تشابكات السلطة. فمسيح الإنجيل يرفض بإصرار إستعمال وسائل هذه الدنيا – تـَـقارع الأسلحة أو أهواء السياسة – لتعزيز غاياته. فبعد معجزة أرغفة الخبز والسمك ظـَنَّ حـَشْـدُ الناس المبهورين بأنهم قد وجدوا مسيحهم الدنيوي. "وعليه فعندما أدرك يسوع بأنهم سيأتون ويأخذونه بالقوة ليُنـَصِّبونه ملكاً فإنه رحل مرة أخرى إلى الجبل لوحده". وعندما يقطع أحد أتباعه أُذن أحد أفراد المجموعة التي تقوم باعتقال يسوع في الجُثمانية، يقول يسوع: "أغمد سيفك." ويقول لاحقاً أمام بيلاطوس: "مملكتي لا تنتمي لهذه الدنيا: فلو كانت مملكتي تنتمي لهذه الدنيا لقاتـَلَ أتباعي." إن كثرة الدروس المأخوذة من الإنجيل ومن بقية العهد الجديد توحي بأن السلطة الدنيوية عابرة ومُفسِدة وبأنه يجب على أتباع المسيح الإهتمام بالأمور الروحية أكثر من إهتمامهم بالأمور السياسية.
ومن ناحية أخرى، وكما هو الحال دائماً في الكتاب المقدس، فهناك مقاطع تـُعقـِّد الصورة. فيقول مؤلف سِفر العبرانيين بأن المؤمنين "غرباء ومنفيّون على الأرض" و "أننا ليست لدينا هنا مدينة دائمة، ولكننا نبحث عن المدينة التي ستأتي." وفي الرسالة إلى الروم يقدم بولص الرسول النصيحة الآتية: "لا تنسجموا مع هذه الدنيا." أما مجلس الفاتيكان الثاني فقد إستشهد بالكلمات الآتية للبابا بايوس الثاني عشر: "إن يسوع المسيح، مؤسس [الكنيسة الكاثوليكية] المقدس، لم يمنحها أي تفويض ولم يحدد أية نهاية للنظام الثقافي. إن الهدف الذي يحدده المسيح للكنيسة هدفٌ دينيٌّ فقط . . . ولا يَسَع الكنيسة أبداً أن تغفل الهدف الديني وما وراء الطبيعي."
وكما قال أحد رؤساء أساقفة كانتربري مرة ً فإنه من الخطأ الإعتقاد بأن الله يهتم بالدين في المقام الأول وبشكل رئيسي. يقول المسيح في عامواس: "إنني أكره صوت تجمّعاتكم المهيبة." إن الدين لا يدور حول عبادة إلهكم فقط، بل حول فِعل الأمور الدالـّة على الورع، كما إن إحدى الرسائل الجوهرية في الإنجيل هي واجب المسيحي في القيام بتغيير الواقع من خلال أعمال المحبة على أفضل وجه يستطيعه. يقول مولر: "تبقى مهمتنا هي أن نكون في العالم وليس جزءاً منه." ويضيف: "إن الكنيسة وجودٌ أبدي في عالم ساقط وزائل – ولكن يجب أن يكون لنا تأثير. إن موعظة الجبل تدور عما ينبغي علينا فعله – غير أنها لا تأتي مع كتيـّب سياسي."
تـُعَـدُّ كيفية الموازنة بين القلق على حديقة الكنيسة والواجبات الأخلاقية الرامية إلى تلطيف الحياة في العالم إحدى المسائل الأكثر إرباكاً والتي تواجه الكنيسة. فقد كتب نول وهاتش ومارسدن قائلين: "أمامنا إلتزامات هامة بأن نفعل ما بوسعنا، بما فيها إستعمال الوسائل السياسية، لمساعدة جيراننا – تعزيز القوانين العادلة والنظام الجيد والسلام والتعليم والفرص." ثم يضيفون: "ومع ذلك علينا أن نلاحظ بأننا بينما نعمل لصالح الأفضل نسبياً في ‘مدينة العالم’ فإن نجاحاتنا ستكون مثل ذلك بالضبط – نسبية. وفي التحليل الأخير تعلن الكنيسة بأن الحلول التي تـُقدِّمُها أمم العالم حلولٌ عابرة دائماً، وهي ذاتها بحاجة إلى إصلاح."
وبينما يقوم آل مولر بالإعداد لعيد الفصح في لويزفيل، فإنه يبقى ساهراً على الثقافة. وفي الأسبوع الماضي نـَشـَرَ عـَموداً بعنوان "هل يؤمن راعي أبرشيتكم بالله؟"، وهو يدور حول الإجهاض والمساعدة على الإنتحار والموجة القادمة من رعاة الأبرشيات. فكتب قائلاً: "لقد تعهـَّد يسوع المسيح بأن أبواب جهنم ذاتها لن تتغلب على كنيسته." ثم أردف قائلاً: "ينوي هذا الجيل الجديد من رعاة الأبرشيات الشباب أن يتصارع مع الجحيم في كهنوت جريء وخيالي. فتـَوقـَّعوا رؤية الشـَرَر يتطاير." وأضاف في مكالمة هاتفية معي: "ما نراه الآن هو الدليل على نمطٍ من التغيّرات الفكرية والثقافية والسياسية في الفكر والعقل بدأ منذ زمن طويل جداً. لقد تغيرت الظروف. يصعب تحديدُها بدقـّةٍ هنا. ولكن كـُلُّ ما جاء بعد عصر التنوير كان مختلفاً تمام الإختلاف عما جاء قبله." ومع تناقص أعداد المسيحيين المؤمنين فإن ما سيأتي بعد الآن هنا سيكون مختلفاً أيضاً.
وهاد حكي ل جون ميتشم
بس أنا بألكون أني عايش ب أميريكا و ال Denmark و Germany
و أميريكا هيه بالوضع الأسوء صراحة بختصار شديد 90% مسيحيين بس بالهوية و الصليب بالبسو زينة مو أكتر بس كمان في طبقة رائعة و فهمانة الديانة المسيحية .
كتابات - ترجمة / غسان نامق
لقد هـَبَطـَتْ نسبة المسيحيين المتديّنين بمقدار 10 نقاط في العـَقـْدَين الماضيَين. فكيف تفسِّر هذه النسبة الإحصائية هويّتـَنا الآن – وما الذي سنصبح عليه كأمة.
(1)
كانت إشارة ً بسيطة، نقطة مقارنة مدفونة في ثنايا الفقرة الخامسة في الصفحة 17 من التقرير الموجز المتكون من 24 صفحة حول الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية لعام 2009. ولكن وفقاً لقراءة آر ألبرت مولر جَيْ آر – رئيس المعهد اللاهوتي المعمداني الجنوبي، وهو واحد من أكبر المعاهد من نوعه على وجه الآرض – وفقاً لقراءته للوثيقة بعد إطلاقها في شهر آذار / مارس، فقد صَعَـقـَتـْه جملة واحدة فقط. فبالنسبة لمؤمن مثل مولر – وهو المسيحي المحافظ والمتشدّد، والمتشبّع بلاهوت عقيدته، والمكرّس لتكوين كهنة يبشـّرون بعصمة إنجيل يسوع المسيح بوصفه السبيل الوحيد لنيل الحياة الأبدية – كان الخبر الرئيسي مثيراً للإزعاج بما فيه الكفاية: فعَدَدُ الأمريكان غير المُنتمين دينياً قد تـَضاعَف تقريباً منذ عام 1990، حيث ارتفع من 8 إلى 15 في المائة. ثم جاءت النقطة التي لم يتمكن من إزاحتها من ذهنه: بينما كان غير المنتمين يتركزون تاريخياً في الشمال الغربي المُطِلِّ على المحيط الهادئ، قال التقرير: "لقد تغيّر هذا النمط الآن، فظهر الشمال الشرقي عام 2008 معقلاً جديداً لغير المنتمين دينياً." ووفقاً لرأي مولر، فالأساس التاريخي للثقافة الدينية في أميركا آخِذ ٌ بالتصدع.
قال لي في الأسبوع الماضي: "لقد صَدَمني ذلك حقاً." ثم أضاف: "لم يكن الشمال الغربي متديّناً ومنتظماً في الكنيسة بقدر الشمال الشرقي الذي كان أساس وموطن الديانة الأمريكية. لقد صعقني فقدان نيو إنجلند لأنه أمر خطير." وبعدما قلـّبَ مولر التقرير في ذهنه، نـَشـَر عموداً يائساً على الإنترنت ليلة أسبوع الآلام يندب فيه ذلك الهبوط – وضمنياً، السقوط الوشيك – لأميركا التي تشكـّلت وتلوّنت بالمسيحية. فكتب قائلاً: "لقد حدث حولنا تحوّلٌ ثقافي كبير." ثم أردف: "لقد تغيّرَت الخطوط الأساسية للثقافة الأمريكية تغيّراً جذرياً. فذلك الإجماع اليهودي المسيحي المعروف في الألفية الماضية قد تـَنـَحّى لتحلَّ محلـّه أزمة ثقافية ما بعد حداثية وما بعد مسيحية وما بعد غربية تهدّد قلب ثقافتنا." وعندما تحدّثتُ مع مولر في الأيام التي تـَلـَتْ كتابته لتلك السطور، كانت كآبته قد إزدادت أكثر. ومن مكتبه في المعهد في لويزفيل، كنتكي، قال: "من الواضح أن هناك حكاية جديدة، حكاية ما بعد مسيحية، تـُحرِّك جانباً كبيراً من هذا المجتمع."
تلك هي المسألة، مصطلح قديم بمطالب جديدة: ما بعد المسيحية. هذا لا يعني أن نقول أن الإله المسيحي قد مات، بل أن قوّته في السياسة والثقافة الأمريكيتين قد تدنـَّت عما كانت عليه في أي حقبة من الذاكرة السابقة. ولِدَهشة الليبراليين الذين يخشون قدوم ثيوقراطية إنجيلية، ولخيبة المحافظين المتديّنين الذين يتوقون لرؤية عقيدتهم بادية بشكل أكبر في الحياة العامة، فإن المسيحيين يشكـّلون الآن نسبة متناقصة بين الأمريكيين.
واستناداً إلى الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية التي لفتت إنتباه مولر فإن نسبة المسيحيين المتدينين قد هبطت بمقدار 10 نقاط في المائة منذ عام 1990، من 86 إلى 76 في المائة. نسبة اليهود هي 1.2 في المائة ونسبة المسلمين هي 0.6 في المائة. وقد رَدَّدَ إستفتاء منتدى بيو Pew Forum المستقل النتائج التي توصّلت إليها الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية، حيث ذكر أن نسبة الذين يقولون أنهم غير منتمين لأية عقيدة محددة قد تضاعفت في السنين الأخيرة إلى 16 في المائة. ومن ناحية التصويت، فقد تنامت هذه الفئة من 5 في المائة عام 1988 إلى 12 في المائة عام 2008 – وهي تقريباً ذات نسبة جمهور الناخبين من الأمريكان الأفارقة. (خمس وسبعون في المائة من الناخبين غير المنتمين إختاروا باراك أوباما، وهو مسيحي.) وفي الوقت نفسه فإن عدد الراغبين في وصف أنفسهم كمُلحدين أو لاأدريين قد إزداد حوالي أربعة أضعاف من عام 1990 حتى عام 2009 وذلك من مليون واحد إلى 3.6 مليون تقريباً. (وذلك حوالي ضعف عدد الأسقفيين البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً.)
وبينما نبقى أمة تتشكـَّل بالعقيدة الدينية على نحو حاسم، إلا أن سياستنا وثقافتنا في الأغلب أقل تأثراً بحركات ومناظرات ذات صفة مسيحية واضحة مما كانت عليه حتى قبل خمس سنوات. وأنا أرى أن هذا أمر جيد – جيد لثقافتنا السياسية التي، كما رآها المؤسسون الأمريكان، معقـّدة ومشحونة بما فيه الكفاية بدون محاولة فرض العقيدة الدينية أو الإلتزام الديني. وهو أمر جيد للمسيحية كذلك، من حيث أن العديد من المسيحيين يُعيدون إكتشاف فضائل الفصل بين الكنيسة والدولة، ذلك الفصل الذي يحمي ما أطلق عليه روجر وليمز، مؤسس جزيرة رود لتكون ملاذاً للمنشقـّين الدينيين، إسم "حديقة الكنيسة" في "برية العالم." وعلى الرغم من أن الدين كان وما يزال أمراً حاسماً في حياة البلاد، إلا أن القوة التي توحِّد أميركا لم تكن عقيدة محددة أبداً، بل الإلتزام بالحرية – وليس أقلـّها حرية الضمير. فنحن في أحسن أحوالنا لا نـُفرد الدين لمساعدة معيّنة ولا لأذىً معيّن، فلطالما كنا نعامل المناظرات القائمة على أساس العقيدة بوصفها عنصراً واحداً من بين عناصر عدة في مجال المناقشة والقرار. إن إضمحلال وسقوط فكرة الحقوق الدينية الحديثة في أميركا المسيحية يخلقان بيئة سياسية أكثر هدوءاً وقد يساعدان، كما يرى العديد من المؤمنين، على فتح الباب أمام حياة دينية أكثر جدية من الناحية اللاهوتية.
لنكن واضحين: بينما قد تكون نسبة المسيحيين آخذةً في الإنكماش، فإن الإشاعات التي تدور حول موت المسيحية مبالـَغٌ فيها جداً. فإذا كانت أميركا أقل مسيحية ً فإن هذا لا يعني بالضرورة أنها ما بعد مسيحية. فثـُلـُث الأمريكان يقولون أنهم يولدون مرة أخرى. إن هذه النسبة، بالإضافة إلى هبوط المعتدلين سياسياً وتحولهم إلى بروتستانت ليبراليين متشددين، جعل واضعي الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية يلاحظون بأن "هذه الإتجاهات . . . توحي بالإنتقال إلى عقائد محافِظة ً أكثر ولا سيما إلى نظرة أكثر ‘إنجيلية’ في ما بين المسيحيين." ومع الأعداد المتزايدة من المهاجرين الهسبانيين المناصرين للكنيسة الرومانية الكاثوليكية في أميركا، ومع شيوع المؤمنين بعيد العَـنصَرة، ومع البيئة المسيحية سريعة النمو في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم، فما من شك في بقاء الأمة متديّنة بشكل كبير – أكثر من أوربا على سبيل المثال.
ومع ذلك، وفي إستفتاء نيوزويك الجديد، فإن عدد الذين ينظرون للولايات المتحدة الأمريكية الآن على أنها "أمة مسيحية" أقل مما كانوا عليه عندما كان جورج دبليو بوش رئيساً (62 في المائة عام 2009 مقابل 69 في المائة عام 2008.) ويقول ثلثا العامة (69 في المائة) الآن بأن الدين "يفقد نفوذه" في المجتمع الأمريكي، بينما يقول 19 في المائة فقط بأن نفوذ الدين يتزايد. أما نسبة الأمريكان الذين يعتقدون بأن الدين "يستطيع الإجابة عن جميع أو معظم مسائل اليوم" فهي منخفضة حالياً بشكل تاريخي بحيث تـَدنـّتْ إلى 48 في المائة. وكانت هذه النسبة في فترة حكم بوش 43 في المائة. أما في سني حكم كلنتون فإنها لم تنزل أدنى من 58 في المائة.
يرى العديد من المسيحيين المحافظين أنهم قد خسروا المعارك حول قضايا مثل الإجهاض وأداء الصلوات في المدارس وحتى زواج المثليين، وأن البلاد قد دخلت الآن مرحلة ما بعد المسيحية. لقد كتب كرستوفر هتشنز – أحد أصدقائي وربما كان المُحرِّض الأكثر سحراً من بين الذين تقابلهم في حياتك – كراسة حول الإلحاد نالـَتْ شعبية واسعة قبل بضع سنوات، عنوانها "الله ليس عظيماً." وبما إنني عضو ملتزم في الكنيسة الأسقفية البروتستانتية (حتى لو كان لديّ الكثير من الأخطاء) فإنني أختلف مع العديد من مناظرات هتشنز – لا أظن من الأمور المُجدِية أن نـُلغي الإعتقاد الديني على أنه خاطئ ومليء بالخرافات – غير أنه رجل ذو نزاهة علمية شديدة ذََكـَر أنه، في رحلة إلى تكساس قام بها مؤخراً، سمع غمغمات إنجيلية حول ظهور أميركا "ما بعد مسيحية."
(2)
تعدّدتْ معاني ما بعد المسيحية في الأزمنة المختلفة. ففي عام 1886 أطلقتْ مجلة "ذي أتلانتك منثلي" على جورج إليوت صفة ما بعد المسيحية، حيث إستعملت المصطلح كمُرادف للإلحاد أو اللاأدرية. أما التعريف الأعرض – والأكثر إرتباطاً بأغراضنا في هذا المقال – فهو أن "ما بعد المسيحية" تـَصِفُ فترة زمنية تـَعْـقِبُ هبوط أهمية المسيحية في منطقةٍ ما أو في مجتمع ٍ ما. وقد ظهر هذا الإستعمال للعبارة للمرة الأولى في كتاب "أميركا المُحرَّرة" للفيلسوف الألماني هيرمان كيزرلنج عام 1929.
وقد شاع إستعمال المصطلح في أثناء ما يَصطلح العلماء على تسميته بحركة "موت الله" في أواسط ستينيات القرن العشرين – وهي حركة ما تزال قائمة. فبناءاً على إعلان نيتشة في القرن التاسع عشر بأن "الله قد مات"، رأتْ مجموعة من اللاهوتيين البروتستانت بأنه ينبغي على المسيحية البقاء على قيد الحياة بشكل أساسي من دون المفهوم الأرثودوكسي لله. وكان توم ألتيزر، وهو بروفسور الأديان في جامعة إيموري، عضواً أساسياً في حركة المسيحية بلا إله، وهو يُعيد جذورها الفكرية إلى كيركيجارد أولاً ومن ثم إلى نيتشة. ويرى ألتيزر أن العصر ما بعد المسيحي تكون فيه "المسيحية والدين ذاته متحرِّرَيْن من أُسُسهما التاريخية السابقة." وفي عام 1992 نشر الناقد هارولد بلوم كتاباً بعنوان "الدين الأمريكي: ظهور الأمة ما بعد المسيحية" الذي يورد فيه تعريف وليم جيمس للدين في "أنواع التجربة الدينية": "الدين . . . يجب أن يعني بالنسبة لنا مشاعر وأفعال وخبرات الأفراد في عـُزلتهم بقدر ما يَعون أنفسهم فيما يتعلق بكل ما يرونه مقدّساً."
هذا بالتحديد هو ما يزعج مولر أكثر من أي شيء آخر. لقد قال لي: "حكاية ما بعد المسيحية مختلفة إختلافاً جذرياً. إنها تـَعرض علينا الأمور الروحية، أياً كان تعريفها، ولكن بدون سلطة مُلزمة." وأضاف: "إنها تقوم على فـَهْم ٍ للتاريخ يَفترض ماضياً أقل تسامحاً ومستقبلاً أكثر تسامحاً، مع إعتبار الحاضر خطوة ً إنتقالية ً هامة." فالحاضر بهذا المعنى متعلق بولادة آلهة متعددة أكثر من تعلقه بموت الله. إن الأعداد المتزايدة من الأمريكان غير المنتمين دينياً تشير إلى أناس يميلون لوصف أنفسهم بـ "الروحانيين" أكثر من مَيلهم لوصفها بـ "المتديّنين." (في إستفتاء نيوزويك الجديد وصف 30 في المائة أنفسهم على هذه الشاكلة حيث صعدت النسبة من 24 في المائة عام 2005.)
وإذا وضعنا الحكاية المسيحية بشكل تقريبي فإنها قصة البشرية وفقاً لتسلسلها الزمني في الكتاب المقدس العبراني وفي العهد الجديد – أي دراما الخلق والسقوط والخلاص. يميل الأورثودكس إلى محاولة عَيْش حياتهم وفقاً للمبادئ السلوكية العامة للكتاب المقدس (أو على الأقل، المبادئ التي يجدونها هناك ويستحسنونها) والمشاركة في الحكم النهائي لله – الحكم الذي يمكن أن يقرر فيما إذا كانوا سيقضون الحياة الأبدية في الجنة أم الجحيم.
فما معنى الحديث إذن عن "أميركا مسيحية"؟ لطالما إعتقد المسيحيون الإنجيليون بأن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تبقى أمة ً تقوم حياتها السياسية على تأويل مبادئ الكتاب المقدس والمبادئ اللاهوتية وتكون محكومة بهذه المبادئ. فإذا عَدّت الكنيسة ُ الشـُربَ خطيئة ً، على سبيل المثال، عندئذٍ يجب على قوانين الولاية أن تـَحْظـُر إستهلاك الكحول. وإذا رأت الكنيسة أن نظرية النشوء تتناقض مع القراءة الحرفية لسفر التكوين، عندئذٍ يجب على المدارس العامة أن تـُكيّف دروسها وفقاً لذلك. وإذا رأت الكنيسة أنه يجب حظر الإجهاض، عندئذٍ يجب على المجالس التشريعية والمحاكم أن تحذو حذوها. إن شدة الشعور بالمدى الذي يجب أن تكون عليه الأمة ُ مسيحية ً قد إنحسر وارتفع منذ جيمستاون. فلا جديد تحت الشمس كما يقول الكتاب المقدس. ولمدة تزيد على 40 سنة فإن النقاش الذي إبتدأ مع قرار المحكمة العليا بإنهاء الأداء الإلزامي للصلوات في المدارس عام 1962 (والذي إزداد مع قرار "رو ضد ويد"(2) Roe v. Wade بعد 11 سنة) قد لايكون جديداً، غير أنه كان بالغ الشدة. وخشية ظهور دولة علمانية شبيهة بأوربا فإن اليمين كان يتوق إلى تصميم عَوْدةٍ إلى ما يراه أميركا المسيحية في الأيام الخوالي.
غير أن المشروع فشل، على الأقل في الوقت الحاضر. ففي تكساس قررت السلطات الإنحياز إلى العلم، وليس اللاهوت، في النزاع حول تدريس نظرية النشوء. كما إن الأوقات العصيبة إقتصادياً لم تؤدِّ إلى زيادة الذهاب إلى الكنائس. ويوم الجمعة الماضية قضت المحكمة العليا في ولاية آيوا ضد حظر زواج المثليين، وهذا يُعَدُّ هزيمة للمحافظين الدينيين. هذه الأدلة هي التي جعلت المؤمنين يغتاظون من إمكانية قدوم عصر تهيمن عليه علمانية جديدة قوية. يقول مولر: "إن التعاليم الأخلاقية للمسيحية قد مارست نفوذاً كبيراً على الحضارة الغربية." ويضيف: "ومع تلاشي تلك التعاليم الأخلاقية من الذاكرة الثقافية فإن أخلاقيات مُعَلمَنة تـَحلُّ محلـّها. وإذا هَجَرَت نسبة كبيرة من السكان الديانة المسيحية فلابد أن يتغير الوضع الأخلاقي العام. وفي معظم القرن العشرين قادت أمم أوربا الغربية الركب في ترك الإلتزامات المسيحية. وقد فسحت الأفعال الإنعكاسية والمبادئ الأخلاقية المسيحية المجال أمام تراخي قبضة الذاكرة المسيحية. أما الآن فحتى تلك الذاكرة المسيحية غائبة من حياة الملايين."
ومن ناحية أخرى، فلطالما كان الشك والتنوّع الدينيين أمرَيْن أمريكيين أساساً. قال أليكسز دو توكفيل بأن "الجو الديني للبلاد كان أول ما لـَفـَتَ إنتباهي عند وصولي الولايات المتحدة الأمريكية." ولكنه إكتشف كذلك "عمقاً كبيراً من الشك واللامبالاة" بالعقيدة. وقد إلتقط جيفرسون مسبقاً جوهر الروح الأمريكية بشأن الدين وذلك عندما لاحظ بأن قانونه الخاص بالحرية الدينية في فرجينيا كان "المقصود منه أن يستوعب، تحت عباءة حمايته، اليهودي وغير اليهودي، المسيحي والمسلم، الهندوسي وغير المؤمن من كل الطوائف" – وأولئك الذين ليست لهم أية عقيدة كانت. لقد ساعدت الثقافة الأمريكة الخاصة بالحرية الدينية على خلق سوق حرة مزدحمة للأديان: بالتوقف عن تأييد الكنائس، فإن الأمة جعلت الدين أكثر شيوعاً، وليس أقل شيوعاً.
إذن، أميركا ليست مجتمعاً ما بعد ديني – ولا يمكن أن تكون كذلك طالما كان فيها ناس، وذلك لأن الإيمان حِسٌّ إنساني فطري. إن الإيمان بنظام أو بحقيقة ما وراء الزمان والمكان أمر قديم وباق ٍ. فقد قال هوميروس: "كل الناس يحتاجون الآلهة." غير أن السؤال السياسي والثقافي الجوهري هو إلى أي مدى ينبغي على أولئك الآلهة – أو بشكل أدق، فـَهْمُ جيل معيّن لأولئك الآلهة – تحديد طبيعة الحياة في زمان ومكان مُحدَّدَيْن.
وإذا أخذنا إختباراً أغسطينياً خاصاً بالإنتماء إلى الأمة وطبّـقناه على أنفسنا فإننا سنجد أن الحرية، وليس الدين، هي ما يوحّدنا. ففي "مدينة الله" قال أغسطين – المذنب المهتدي وأسقف هيبو Hippo – أنه يجب تعريف الأمة على أنها "حَشـْدٌ من البشر العقلانيين يجمعهم إتفاق مشترك بشأن مواضيع حبهم." وهكذا فإن ما نعطيه قيمة أكثر من غيره – ما نحبه جميعاً أكثر من غيره – هو الإختبار الأساسي للعقد الإجتماعي.
(3)
إذا أصدرنا حكماً بالإستناد إلى الشكل الواسع للحياة الأمريكية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سنرى أننا نـُقدّر الحرية الفردية والمشاريع الحرة (أو الحرة إلى درجة كبيرة) وأننا نميل إلى مذهب الحرية في قضايا الأخلاق الشخصية. أما الوثائق التأسيسية فهي إعلان الإستقلال والدستور، وليس الكتاب المقدس العبري والعهد الجديد (على الرغم من وجود روابط لا يمكن إنكارها في ما بينهم). هذا السبيل في الحياة يختلف إختلافاً كبيراً عما يطمح إليه العديد من المسيحيين المحافظين بشكل علني. لكن تلك هي قوة النظام الجمهوري الذي وضعه جيمس ماديسون في نهاية القرن الثامن عشر: بقاء أميركا مرتبط إرتباطاً مباشراً بقدرتها على وضع حد للتطرف والحفاظ على أكبر قدر من الحرية الشخصية. يجب على المؤمنين المتدينين أن يرحبوا بهذا، فالحرية لطائفة واحدة تعني الحرية لكافة الطوائف. وكما قال جون فتزجيرالد كندي في خطابه أمام جمعية هيوستون الوزارية الكبرى عام 1960: "بينما قد يكون في هذه السنة كاثوليكياً تتجه إليه أصابع الشك، فقد كان في سنين أخرى، وربما سيكون ثانية ً يوماً ما، يهودياً – أو كويكر – أو موحّداً – أو معمدانياً . . . اليوم قد أكون أنا الضحية – ولكن غداً قد تكونون أنتم – حتى يتمزق نسيج مجتمعنا المتجانس كلـُّه."
لقد كان الدين أحد العوامل في الحياة والسياسة الأمريكيتين منذ البداية. فقد كانت الشعائر الأنجليكانية إلزامية في جيمستاون، كما كان البيوريتانيون في نيو إنجلند يأملون بشكل صريح إقامة قدس (أورشليم) جديدة. غير أن الإيمان القسري لا يُعَدُّ إيماناً على الإطلاق، بل هو إستبداد. قال روجر وليمز: "أوصي بأن لا يتجه الإنسان، سواء كان يهودياً أو مسلماً أو معمدانياً أو أياً كان، بغير الإتجاه الذي يُمليه عليه ضميره."
في زمن التأسيس الأمريكي كان رجال من مثل جيفرسون وماديسون يَرَون الفضيلة تكمن في ضمان حرية الضمير، وكان أحد الإنجازات البارزة للجمهورية الفتية هو خلق بيئة إمتزج فيها الدين والسياسة، غير أن الكنيسة والدولة لم يمتزجا. وكانت فكرة المؤسسين هي أنه قد يحاول المرء إقامة جدار بين الإقتصاد والسياسة مثل الجدار القائم بين الدين والسياسة، حيث أن كِلـَيْهما يدوران حول ما يشعر به الناس وكيفية رؤيتهم للعالم. دَع المتديّنين يأخذون مكانهم في ساحة السياسة والأفكار لوحدهم، وقاتِلْ من أجل آرائهم على قدم المساواة مع كافة المصالح الأخرى. إن الحياة الأمريكية العامة لا هي علمانية بالكامل ولا هي دينية بالكامل، بل هي مزيج سَلِسٌ من الإثنين. ويقول التاريخ أن المشاكل تظهر عندما تصبح إحدى هاتين القوتين أقوى من الثانية.
لذا فالإنتصارات السياسية في جوهرها أمرٌ عابر. ففي منتصف القرن التاسع عشر قال الإنجيلي تشارلز جرانديسون فيني: "إن عمل الكنيسة الكبير هو إصلاح العالم – إزاحة كل نوع من أنواع الخطيئة." كما قال: "إن المسيحيين مُلزَمون بممارسة نفوذهم من أجل ضمان وضع تشريع يتوافق مع شريعة الله."
يميل النجاح الدنيوي إلى تأشير بداية نهاية التديّن المكشوف في السياسة. فقد كان يُنظـَر للحظر مبدأياً على أنه نصر أخلاقي كبير، إلا أن فشله وإلغاءه النهائي يشيران إلى أنه يجب على أية حركة أن تنتبه لما ترغب فيه: في أميركا، تميل إرادة الأغلبية العريضة إلى الفوز حتى على المصالح الضيقة الأكثر إخلاصاً.
ومع إنقضاء القرن العشرين وجد المسيحيون أنفسهم في موقف غير مثير للجدل نسبياً في مواجهة "شيوعية ملحدة"، وكان يبدو أن حدة الحظر(3) وعصر محاكمة سكوبس Scopes(4) قد خفـّت قليلاً. كما إن قضايا الأخلاق الشخصية، وليست السياسة الدولية، وَضَعَت أسس الحملة الرامية إلى أميركا مسيحية نعرفها بصيغة ظهور اليمين المتديّن. وكانت ظاهرة الطلاق في ستينيات القرن العشرين وقرار رو Roe عام 1973 أمرَيْن حاسمَيْن، أما إيمان جيمي كارتر المتجدّد فقد جعل المسيحية الإنجيلية في المقدمة عام 1976.
لقد أحسّ جو سكاربورو، وهو المعلـّق وعضو الكونغرس السابق عن الحزب الجمهوري والذي نشأ في أطلانطا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أحسّ بمخاوف والدَيْه الإنجيليين وأصدقائهما – وهي المخاوف التي ساعدت في حشد الدعم لحركة أميركا المسيحية المحافظة سياسياً. يقول سكاربورو: "كان القلق الكبير في وسط أميركا هو أننا كنا محاصَرين – كان والداي يَرَيان الأولاد يسيرون في الشارع وقد كانوا كشـّافة ً قبل ثلاث سنوات ثم فجأة ً صاروا يشبهون الهيبيز، وكانوا خائفين." ويردف قائلاً: "من الناحية الثقافية، كان أكتوبر 2001 بمثابة عقد من الزمن. بمثابة عقد من الزمن فعلاً. وعندما أدرك أباؤنا أننا لن نختفي في المخدرات والتطرّف فإن الضغط خَفَّ. ذلك هو العالم الذي نحن فيه الآن – آباء الأبناء الناجحين الذين ماكانوا ليشربوا كأساً من الخمر قبل 30 سنة نراهم الآن يشربون الفودكا. بشكلٍ ما، لقد تحرّروا."
كما إنهم تعلـّموا أن السياسة لا تـُقدِّم كافة الإجابات – إنه درس كان يميل، مع نوع من الإرتياح من توترات الإضطرابات الثقافية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، يميل إلى كبح جماح الحماس السياسي المُلهَم دينياً. يقول مولر: "كان أسوأ خطأ من أخطاء الإنجيليين من الناحية السياسية طوال السنين الثلاثين الأخيرة هو السذاجة غير المعقولة في ما يتعلق بالسياسة والسياسيين والأحزاب." ويضيف قائلاً: "فقد إستثمروا الكثير من الأمل في إيجاد حل سياسي للقضايا والمشاكل التي تتجاوز السياسة. فلو كـُنـّا في موقف ذي طابع أوربي أكثر حيث غالباً ما تختلف الأحزاب حول المسائل السياسية التقليدية أكثر من إختلافها حول المسائل الأخلاقية، أو لو كانت أحزابنا أكثر، لكانت لدينا عندئذٍ صورة مختلفة تمام الإختلاف. ولكن عندما إرتبط الإجهاض والمفهوم الأخلاقي للصلاح الإنساني بحزبٍ واحد، لم يتبقّ لدى المسيحيين سوى القليل من الخيارات سياسياً."
وعندما فشل ذلك الحزب في تحقيق الخلاص – وقد فشل فعلاً – تمثـّلت إستجابة البعض في الحركة بالإنكفاء إلى التطرّف وذلك لقناعتهم بِشـَرِّ وفساد العالم السياسي الذي تـَسَـبَّبَ لهم بهزيمة بعد أخرى. (لقد حدث الأمر ذاته للعديد من الليبراليين بعد عام 1968: فبسبب غيظ اليسار من المزاج المحافظ السائد في البلاد، تميّز رد فعله بالغضب وزاد إتجاهه إلى اليسار.)
(4)
كان الكاتب كال توماس إحدى الشخصيات التي رأتْ مبكراً بأن الحركة الأمريكية المسيحية تنطوي على خطأ قاتل من وجهة النظر اللاهوتية، حيث يقول: "لا تستطيع أية دولة أن تكون ‘مسيحية’ حقاً. الناس فقط هم الذين يستطيعون ذلك. إن الله فوق كل الأمم، وفي الواقع يقول أشعيا أن ‘كل الأمم ليست بالنسبة له سوى قطرة في الدلو وأقل من لا شيء’." وبعودة توماس في تفكيره عبر عقود من الزمن فإنه يستذكر الأمل – والفشل. "كنا نمرُّ في مرحلة تنظيم الناس ذوي العقول المتماثلة لـ ‘إعادة’ أميركا إلى زمن ٍ ذي أخلاقيات أعلى. وبالطبع لم يكن ليقوم بذلك سوى السياسيون الذين عانوا من فترة عصيبة في فرض الأخلاقيات على أنفسهم!"
ويظهر من التجارب أن السلطات الدينية ذاتها يمكن أن تتعرض للفساد من خلال مجاورتها للسلطة السياسية. وقبل ربع قرن نشر ثلاثة علماء يعتنقون المسيحية الإنجيلية كذلك – مارك أي نول وناثان أو هاتش وجورج إم مارسدن – نشروا كتاباً هاماً ولكنه لم ينل من الإنتشار إلا النزر اليسير، وهو كتاب "البحث عن أميركا مسيحية." وهم يقولون في هذا الكتاب أن دعاوى المسيحية تسمو فوق أي نظام سياسي. ويقولون أن المسيحيين "لا ينبغي أن تكون لديهم أوهام حول طبيعة الحكومات البشرية. فـَهُم في آخر الأمر ينتمون لما يُطلق عليه أُغسطين إسم ‘مدينة العالم’ التي تحكم فيها المصلحة الشخصية . . . وكل الحكومات يمكن أن تكون قـَتـَلة متوحشين."
تتساوق نظرتهم هذه مع نظرة النبي داود صاحب المزامير الذي قال: "لا تضع ثقتك في الأُمراء." كما يوجد الكثير من أدلة العهد الجديد التي تدعم رؤية العقيدة والسياسة حيث تكون فيها الكنيسة أصدق ما تكون بشأن رسالتها الجوهرية عندما تكون أبعد ما تكون عن تشابكات السلطة. فمسيح الإنجيل يرفض بإصرار إستعمال وسائل هذه الدنيا – تـَـقارع الأسلحة أو أهواء السياسة – لتعزيز غاياته. فبعد معجزة أرغفة الخبز والسمك ظـَنَّ حـَشْـدُ الناس المبهورين بأنهم قد وجدوا مسيحهم الدنيوي. "وعليه فعندما أدرك يسوع بأنهم سيأتون ويأخذونه بالقوة ليُنـَصِّبونه ملكاً فإنه رحل مرة أخرى إلى الجبل لوحده". وعندما يقطع أحد أتباعه أُذن أحد أفراد المجموعة التي تقوم باعتقال يسوع في الجُثمانية، يقول يسوع: "أغمد سيفك." ويقول لاحقاً أمام بيلاطوس: "مملكتي لا تنتمي لهذه الدنيا: فلو كانت مملكتي تنتمي لهذه الدنيا لقاتـَلَ أتباعي." إن كثرة الدروس المأخوذة من الإنجيل ومن بقية العهد الجديد توحي بأن السلطة الدنيوية عابرة ومُفسِدة وبأنه يجب على أتباع المسيح الإهتمام بالأمور الروحية أكثر من إهتمامهم بالأمور السياسية.
ومن ناحية أخرى، وكما هو الحال دائماً في الكتاب المقدس، فهناك مقاطع تـُعقـِّد الصورة. فيقول مؤلف سِفر العبرانيين بأن المؤمنين "غرباء ومنفيّون على الأرض" و "أننا ليست لدينا هنا مدينة دائمة، ولكننا نبحث عن المدينة التي ستأتي." وفي الرسالة إلى الروم يقدم بولص الرسول النصيحة الآتية: "لا تنسجموا مع هذه الدنيا." أما مجلس الفاتيكان الثاني فقد إستشهد بالكلمات الآتية للبابا بايوس الثاني عشر: "إن يسوع المسيح، مؤسس [الكنيسة الكاثوليكية] المقدس، لم يمنحها أي تفويض ولم يحدد أية نهاية للنظام الثقافي. إن الهدف الذي يحدده المسيح للكنيسة هدفٌ دينيٌّ فقط . . . ولا يَسَع الكنيسة أبداً أن تغفل الهدف الديني وما وراء الطبيعي."
وكما قال أحد رؤساء أساقفة كانتربري مرة ً فإنه من الخطأ الإعتقاد بأن الله يهتم بالدين في المقام الأول وبشكل رئيسي. يقول المسيح في عامواس: "إنني أكره صوت تجمّعاتكم المهيبة." إن الدين لا يدور حول عبادة إلهكم فقط، بل حول فِعل الأمور الدالـّة على الورع، كما إن إحدى الرسائل الجوهرية في الإنجيل هي واجب المسيحي في القيام بتغيير الواقع من خلال أعمال المحبة على أفضل وجه يستطيعه. يقول مولر: "تبقى مهمتنا هي أن نكون في العالم وليس جزءاً منه." ويضيف: "إن الكنيسة وجودٌ أبدي في عالم ساقط وزائل – ولكن يجب أن يكون لنا تأثير. إن موعظة الجبل تدور عما ينبغي علينا فعله – غير أنها لا تأتي مع كتيـّب سياسي."
تـُعَـدُّ كيفية الموازنة بين القلق على حديقة الكنيسة والواجبات الأخلاقية الرامية إلى تلطيف الحياة في العالم إحدى المسائل الأكثر إرباكاً والتي تواجه الكنيسة. فقد كتب نول وهاتش ومارسدن قائلين: "أمامنا إلتزامات هامة بأن نفعل ما بوسعنا، بما فيها إستعمال الوسائل السياسية، لمساعدة جيراننا – تعزيز القوانين العادلة والنظام الجيد والسلام والتعليم والفرص." ثم يضيفون: "ومع ذلك علينا أن نلاحظ بأننا بينما نعمل لصالح الأفضل نسبياً في ‘مدينة العالم’ فإن نجاحاتنا ستكون مثل ذلك بالضبط – نسبية. وفي التحليل الأخير تعلن الكنيسة بأن الحلول التي تـُقدِّمُها أمم العالم حلولٌ عابرة دائماً، وهي ذاتها بحاجة إلى إصلاح."
وبينما يقوم آل مولر بالإعداد لعيد الفصح في لويزفيل، فإنه يبقى ساهراً على الثقافة. وفي الأسبوع الماضي نـَشـَرَ عـَموداً بعنوان "هل يؤمن راعي أبرشيتكم بالله؟"، وهو يدور حول الإجهاض والمساعدة على الإنتحار والموجة القادمة من رعاة الأبرشيات. فكتب قائلاً: "لقد تعهـَّد يسوع المسيح بأن أبواب جهنم ذاتها لن تتغلب على كنيسته." ثم أردف قائلاً: "ينوي هذا الجيل الجديد من رعاة الأبرشيات الشباب أن يتصارع مع الجحيم في كهنوت جريء وخيالي. فتـَوقـَّعوا رؤية الشـَرَر يتطاير." وأضاف في مكالمة هاتفية معي: "ما نراه الآن هو الدليل على نمطٍ من التغيّرات الفكرية والثقافية والسياسية في الفكر والعقل بدأ منذ زمن طويل جداً. لقد تغيرت الظروف. يصعب تحديدُها بدقـّةٍ هنا. ولكن كـُلُّ ما جاء بعد عصر التنوير كان مختلفاً تمام الإختلاف عما جاء قبله." ومع تناقص أعداد المسيحيين المؤمنين فإن ما سيأتي بعد الآن هنا سيكون مختلفاً أيضاً.
وهاد حكي ل جون ميتشم
بس أنا بألكون أني عايش ب أميريكا و ال Denmark و Germany
و أميريكا هيه بالوضع الأسوء صراحة بختصار شديد 90% مسيحيين بس بالهوية و الصليب بالبسو زينة مو أكتر بس كمان في طبقة رائعة و فهمانة الديانة المسيحية .
Comment