ربما يظن بعض الناس بأن من الأمور البديهية القول بأنه : " لا يوجد شيء ولا شخص يخلو من النقائص " ، ولكن هذا الاحساس بالبداهة يزول تماما عند التطبيق العملي ، فالفرد يثق بآرائه وافكاره ومواقفه وسلوكه دون تمحيص ، فهو ينسى هذه البداهة فيستحسن من نفسه كل تصور ، ويستصوب من ذاته كل رأي ، فلا يبصر عيوب نفسه ولا ينتبه لنقائص ذاته .
وهذا العمي المطبق عن رؤية عيوب الذات ، قد فطن له حتى العامة لذلك يكررون دائما مقولة : "... يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه.." وهو قول معبّر لما فيه من مبالغة شديدة ، لأنه من البديهي ان العين لا يمكن ان تحتوي الجذع بل لو طارت هبابة من الجذع واصابت العين لطفق يصرخ . لذلك فإن هذا التعبير يدل على شدة احساس الناس بهذا العجز عن رؤية نقائص الذات فعلى فرض ان العين كانت واسعة إلى درجة تجعلها تتسع لاحتواء الجذع وعلى فرض ان العين فقدت الاحساس بالألم فإن الانسان لن يرى الجذع الذي تحتويه عينه بينما يفطن للقذاة الصغيرة التي تصعب رؤيتها إذا كانت في عين غيره انها مبالغة صارخة للدلالة على شدة العمى وفداحة التحيُّز ومع ذلك يبقى كل فرد مأخوذا بهذا العمى المطبق الذي فطن له الجميع ولكنهم عجزوا عجزا مطلقا عن اتّقائه أو الاحساس الفعلي به إلا إذا كان من غيرهم .
وهذا العمى المطبق المحكوم بقطبي " الحب والكره " وبتراكمات اللاوعي يُغيِّب البداهات ، وهو لا يتوقف عند حد ، فالإنسان أيضا ينسى البداهات فيتقبل ما وجد في بيئته من قيم وتصورات دون تردد أو تحليل مهما كانت منافية للمنطق والعقل ، ويثور إذا وضعت هذه القيم والتصورات والتقاليد التي تربى عليها موضع البحث ، لأنه يتوهم كمالها ويعتقد انه ليس في الامكان أبدع مما كان ، وهو أيضا يستسلم للأقوال التي تنقل عمن يثق بهم دون أية مراجعة أو تشكُّك ، ولا يرضى بأن يقوم أي باحث بالاعتراض عليهم أو مراجعة أقوالهم أو التنبيه لما وقعوا فيه من سهو أو توهم أو خطأ أو جور ، وهو بذلك ينسى أيضا بداهات النقائص والأهواء البشرية فهو من حيث لا يدري يتصرف وكأن هؤلاء لا يمكن ان يقعوا فيما يقع به البشر من الأخطاء والنقائص ، فهو ينفي عنهم العصمة نظريا لكنه يثبتها لهم عملياً.
كما ان الاحساس ببداهة " وجود النقائص في الاشخاص والأشياء " يتلاشى كلياً عند التعامل مع النقد ، فالشخص الذي يثق الناس به لا يمكن ان يتقبلوا توجيه النقد اليه ، حيث يكتسب في الغالب نوعا من الهالة التي قد تصل إلى درجة التقديس ، اما اذا قبلوا امكانية النقص فيه فإن مكانته تنهار كليا من نفوسهم ، فالشخص اما ان يكون ارفع من النقد أو يكون مهدوما بالنقد ، وهذا من أهم الأسباب التي تجعل الناس في المجتمع العربي لا يطيقون المناقشة ! لأنهم يعرفون ان مكانتهم مرتهنة بسلامتهم من النقد ، اما إذا تعرضوا لأية مراجعة فإن مكانتهم لابد ان تنهار ! وهذه الرؤية الساذجة والهدامة والبعيدة عن العلم والمناقضة للواقع ، هي التي تجعل الرؤساء العرب لا يرضون من الشعوب في الاستفتاءات بأقل من 99.99% حتى صارت هذه التسعات الاربع سمة لازمة لأي استفتاء عربي .
ان هذه احدى المعضلات الكبرى في الثقافة العربية ، لكنها رغم ذلك لم تنل أي قدر من الدراسة والنقاش والتشخيص والمعالجة ، ليعتاد الناس على تقييم الاشخاص والاعمال والأفكار والأحداث والأشياء بمعيار " مبدأ التغليب والترجيح " وان يدركوا ان حقائق الوجود تؤكد استحالة تحقق الكمال في الأشخاص والأشياء والأعمال والأفكار ، فالشيء يكون جيدا إذا كانت منافعه راجحة على مضاره ، والشخص ينال الرضا ويوصف بالنجاح اذا رجحت مزاياه بنقائصه:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلاً أن تُعدَّ معايبه
فلابد ان يتربى الناس على إدراك ان موجودات هذه الدنيا من : " الاشخاص والأشياء والاعمال والأفكار والعلوم والمبتكرات والفُهوم" ، هي خليط من الكمال والنقص وامشاج من الصواب والخطأ ، ومزاوجة بين الضرر والنفع ، وانها لا يمكن ان تخلو الأشياء من الضرر ولا أن يخلو الاشخاص ولا انتاجهم من النقص ، لذلك فإن التعامل مع كل موجودات هذه الحياة يجب ان يكون وفق مبدأ التغليب والترجيح وليس على " توهم امكان الكمال " ، ليس هذا فحسب بل ان شعور الإنسان بهذه الحقيقة الوجودية الاساسية هو من أكبر حوافز التقدم ، فهو العامل الأول لبناء الحضارة ولتقدم العلوم وتنامي التقنيات وتطور الفنون.
ان الناس مهما ادعوا بأنهم يدركون بالبداهة خضوع كل البشر للنقائص وخضوع كل الأشياء لهذا القانون الكوني ، فإنه من النادر ان يستصحبوا هذه البداهة عند التعامل الواقعي مع الأشخاص أو الأفكار أو الأعمال أو الأشياء، بل ينسون هذه البداهة ! فلا يسيغون أي استدراك على من يعجبهم ، ولا يتحملون الاعتراف بأية مزية لمن يُغضبهم ، وينسون ان الحكم دائما يجب ان يكون وفق مبدأ التغليب والترجيح ، وان العدل والإنصاف حق لكل البشر وواجب على كل الناس.
إن الكمال لله وحده ، اما الإنسان وانتاجه واعماله وأفكاره وفهمه فإنها كلها مغموسة بالنقائص والعيوب والآفات ، وهذه حكمة الخالق لأن الانسان يستمد طاقته في العمل من بعض هذه النقائص، فلولا حاجته الى الأكل لما ابتكر كل ما يتعلق بالغذاء ، ولولا حاجته للكساء لما تطورت صناعة الأقمشة وهكذا بقية المبتكرات ، فالانسان مخلوق ضعيف في بنائه الجسدي ، لكن الله منحه عقلا مبتكرا ، ولكن النقائص والاحتياجات هي حافز الابداع ، وهذه لا يعني ان كل النقائص نافعة ففي الانسان نقائص تلتهم طاقته ، وهذا التأرجح هو الذي يحقق التوازن ، وهكذا حتى هذا الحافز الرئيسي للإبداع والاختراع يكون احيانا مثبطا ، فلا شيء يمكن قبوله بشكل مطلق ولا رفضه بشكل مطلق، وانما يجب اي يجري التقييم وفق مبدأ التغليب والترجيح.
ان الانسان مهما بلغت عظمته ومهما امتدت شهرته ومهما ظهر صلاحه أو تميز بقدراته يبقى واحدا من البشر ، يجوز عليه النقص والنسيان وسوء الفهم والتأثر بالتحيز والخضوع للهوى ، كما يبقى مرتهنا بنقص أو أكثر من النقائص البشرية ، وهذه الحقيقة الكبرى تغيب في معظم الثقافات ذات الرؤية الحدية التي تعتمد الارتجال في التقييم ، والمشافهة في التواصل ، والاشاعات في الاثبات، والتسرع في اطلاق الآراء والاحكام ، أما الثقافات التي كان فكر التحقق الفلسفي العلمي هو النظام المعرفي الذي تتحرك بداخله كل نشاطات العق ، فإنها قد وعت هذه الحقيقة الكونية الشاملة ، فطبعت الاحكام والتقييمات بالواقعية والموضوعية ، وصانتها هذه الرؤية البصيرة من جور الافراط أو التفريط ، فاعتاد الناس هناك على ان تكون احكامهم وآراؤهم وقراراتهم على الأوضاع والاشخاص والأشياء قائمة على مبدأ التغليب والترجيح طبقا للقاعدة التعليمية التي تعتبر الدارس ناجحا إذا جاء الصواب في الاجابات أكثر من الأخطاء.
لذلك لا تهتز هناك مكانة الرجال العظام بظهور نقائصهم ، كما ان هؤلاء العظماء لا يكتسبون القداسة مهما بلغت عظمتهم ، بل يبقون خاضعين للمراجعة الدائمة والتصويب المستمر دون ان ينقص ذلك من قدرهم ، كما ان الناس في الثقافات التي برزت فيها هذه الحقيقة لا ينفرون من الأشياء لوجود بعض الضرر فيها إلا إذا غلبت جوانب الضرر على جوانب النفع ، لأن هذا القانون الكوني قد اصبح ممزوجا بثقافتهم اليومية فلا يحتاجون إلى من ينبههم إليه.
منقول مع بعض التعديل
وهذا العمي المطبق عن رؤية عيوب الذات ، قد فطن له حتى العامة لذلك يكررون دائما مقولة : "... يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه.." وهو قول معبّر لما فيه من مبالغة شديدة ، لأنه من البديهي ان العين لا يمكن ان تحتوي الجذع بل لو طارت هبابة من الجذع واصابت العين لطفق يصرخ . لذلك فإن هذا التعبير يدل على شدة احساس الناس بهذا العجز عن رؤية نقائص الذات فعلى فرض ان العين كانت واسعة إلى درجة تجعلها تتسع لاحتواء الجذع وعلى فرض ان العين فقدت الاحساس بالألم فإن الانسان لن يرى الجذع الذي تحتويه عينه بينما يفطن للقذاة الصغيرة التي تصعب رؤيتها إذا كانت في عين غيره انها مبالغة صارخة للدلالة على شدة العمى وفداحة التحيُّز ومع ذلك يبقى كل فرد مأخوذا بهذا العمى المطبق الذي فطن له الجميع ولكنهم عجزوا عجزا مطلقا عن اتّقائه أو الاحساس الفعلي به إلا إذا كان من غيرهم .
وهذا العمى المطبق المحكوم بقطبي " الحب والكره " وبتراكمات اللاوعي يُغيِّب البداهات ، وهو لا يتوقف عند حد ، فالإنسان أيضا ينسى البداهات فيتقبل ما وجد في بيئته من قيم وتصورات دون تردد أو تحليل مهما كانت منافية للمنطق والعقل ، ويثور إذا وضعت هذه القيم والتصورات والتقاليد التي تربى عليها موضع البحث ، لأنه يتوهم كمالها ويعتقد انه ليس في الامكان أبدع مما كان ، وهو أيضا يستسلم للأقوال التي تنقل عمن يثق بهم دون أية مراجعة أو تشكُّك ، ولا يرضى بأن يقوم أي باحث بالاعتراض عليهم أو مراجعة أقوالهم أو التنبيه لما وقعوا فيه من سهو أو توهم أو خطأ أو جور ، وهو بذلك ينسى أيضا بداهات النقائص والأهواء البشرية فهو من حيث لا يدري يتصرف وكأن هؤلاء لا يمكن ان يقعوا فيما يقع به البشر من الأخطاء والنقائص ، فهو ينفي عنهم العصمة نظريا لكنه يثبتها لهم عملياً.
كما ان الاحساس ببداهة " وجود النقائص في الاشخاص والأشياء " يتلاشى كلياً عند التعامل مع النقد ، فالشخص الذي يثق الناس به لا يمكن ان يتقبلوا توجيه النقد اليه ، حيث يكتسب في الغالب نوعا من الهالة التي قد تصل إلى درجة التقديس ، اما اذا قبلوا امكانية النقص فيه فإن مكانته تنهار كليا من نفوسهم ، فالشخص اما ان يكون ارفع من النقد أو يكون مهدوما بالنقد ، وهذا من أهم الأسباب التي تجعل الناس في المجتمع العربي لا يطيقون المناقشة ! لأنهم يعرفون ان مكانتهم مرتهنة بسلامتهم من النقد ، اما إذا تعرضوا لأية مراجعة فإن مكانتهم لابد ان تنهار ! وهذه الرؤية الساذجة والهدامة والبعيدة عن العلم والمناقضة للواقع ، هي التي تجعل الرؤساء العرب لا يرضون من الشعوب في الاستفتاءات بأقل من 99.99% حتى صارت هذه التسعات الاربع سمة لازمة لأي استفتاء عربي .
ان هذه احدى المعضلات الكبرى في الثقافة العربية ، لكنها رغم ذلك لم تنل أي قدر من الدراسة والنقاش والتشخيص والمعالجة ، ليعتاد الناس على تقييم الاشخاص والاعمال والأفكار والأحداث والأشياء بمعيار " مبدأ التغليب والترجيح " وان يدركوا ان حقائق الوجود تؤكد استحالة تحقق الكمال في الأشخاص والأشياء والأعمال والأفكار ، فالشيء يكون جيدا إذا كانت منافعه راجحة على مضاره ، والشخص ينال الرضا ويوصف بالنجاح اذا رجحت مزاياه بنقائصه:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلاً أن تُعدَّ معايبه
فلابد ان يتربى الناس على إدراك ان موجودات هذه الدنيا من : " الاشخاص والأشياء والاعمال والأفكار والعلوم والمبتكرات والفُهوم" ، هي خليط من الكمال والنقص وامشاج من الصواب والخطأ ، ومزاوجة بين الضرر والنفع ، وانها لا يمكن ان تخلو الأشياء من الضرر ولا أن يخلو الاشخاص ولا انتاجهم من النقص ، لذلك فإن التعامل مع كل موجودات هذه الحياة يجب ان يكون وفق مبدأ التغليب والترجيح وليس على " توهم امكان الكمال " ، ليس هذا فحسب بل ان شعور الإنسان بهذه الحقيقة الوجودية الاساسية هو من أكبر حوافز التقدم ، فهو العامل الأول لبناء الحضارة ولتقدم العلوم وتنامي التقنيات وتطور الفنون.
ان الناس مهما ادعوا بأنهم يدركون بالبداهة خضوع كل البشر للنقائص وخضوع كل الأشياء لهذا القانون الكوني ، فإنه من النادر ان يستصحبوا هذه البداهة عند التعامل الواقعي مع الأشخاص أو الأفكار أو الأعمال أو الأشياء، بل ينسون هذه البداهة ! فلا يسيغون أي استدراك على من يعجبهم ، ولا يتحملون الاعتراف بأية مزية لمن يُغضبهم ، وينسون ان الحكم دائما يجب ان يكون وفق مبدأ التغليب والترجيح ، وان العدل والإنصاف حق لكل البشر وواجب على كل الناس.
إن الكمال لله وحده ، اما الإنسان وانتاجه واعماله وأفكاره وفهمه فإنها كلها مغموسة بالنقائص والعيوب والآفات ، وهذه حكمة الخالق لأن الانسان يستمد طاقته في العمل من بعض هذه النقائص، فلولا حاجته الى الأكل لما ابتكر كل ما يتعلق بالغذاء ، ولولا حاجته للكساء لما تطورت صناعة الأقمشة وهكذا بقية المبتكرات ، فالانسان مخلوق ضعيف في بنائه الجسدي ، لكن الله منحه عقلا مبتكرا ، ولكن النقائص والاحتياجات هي حافز الابداع ، وهذه لا يعني ان كل النقائص نافعة ففي الانسان نقائص تلتهم طاقته ، وهذا التأرجح هو الذي يحقق التوازن ، وهكذا حتى هذا الحافز الرئيسي للإبداع والاختراع يكون احيانا مثبطا ، فلا شيء يمكن قبوله بشكل مطلق ولا رفضه بشكل مطلق، وانما يجب اي يجري التقييم وفق مبدأ التغليب والترجيح.
ان الانسان مهما بلغت عظمته ومهما امتدت شهرته ومهما ظهر صلاحه أو تميز بقدراته يبقى واحدا من البشر ، يجوز عليه النقص والنسيان وسوء الفهم والتأثر بالتحيز والخضوع للهوى ، كما يبقى مرتهنا بنقص أو أكثر من النقائص البشرية ، وهذه الحقيقة الكبرى تغيب في معظم الثقافات ذات الرؤية الحدية التي تعتمد الارتجال في التقييم ، والمشافهة في التواصل ، والاشاعات في الاثبات، والتسرع في اطلاق الآراء والاحكام ، أما الثقافات التي كان فكر التحقق الفلسفي العلمي هو النظام المعرفي الذي تتحرك بداخله كل نشاطات العق ، فإنها قد وعت هذه الحقيقة الكونية الشاملة ، فطبعت الاحكام والتقييمات بالواقعية والموضوعية ، وصانتها هذه الرؤية البصيرة من جور الافراط أو التفريط ، فاعتاد الناس هناك على ان تكون احكامهم وآراؤهم وقراراتهم على الأوضاع والاشخاص والأشياء قائمة على مبدأ التغليب والترجيح طبقا للقاعدة التعليمية التي تعتبر الدارس ناجحا إذا جاء الصواب في الاجابات أكثر من الأخطاء.
لذلك لا تهتز هناك مكانة الرجال العظام بظهور نقائصهم ، كما ان هؤلاء العظماء لا يكتسبون القداسة مهما بلغت عظمتهم ، بل يبقون خاضعين للمراجعة الدائمة والتصويب المستمر دون ان ينقص ذلك من قدرهم ، كما ان الناس في الثقافات التي برزت فيها هذه الحقيقة لا ينفرون من الأشياء لوجود بعض الضرر فيها إلا إذا غلبت جوانب الضرر على جوانب النفع ، لأن هذا القانون الكوني قد اصبح ممزوجا بثقافتهم اليومية فلا يحتاجون إلى من ينبههم إليه.
منقول مع بعض التعديل
Comment