"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"
هذه الصرخة العظيمة المجلجلة النافذة في جسد الأيام كالضوء الساطع, والهادرة في أعماق النفوس البشرية منذ أربعة عشر قرنا وستبقى إلى الأبد عنيفة فائقة المعاني والدلالات, لأنها قد عبرت عن مفتاح السعادة الأرضية والبناء الحضاري الجميل الذي يحبه مبدع الأكوان وخالق الإنسان. وبرغم هذا الوعي الكبير وقوة الإرادة الإنسانية في تحقيق الحياة الحرة السعيدة القائمة في رياض العدل والسماحة والسلام, فأن البشرية لازالت في مأزق العبودية وقوانين التفاعلات الناجمة عنها والتي تتسبب في إدامة الويلات والبؤس المرير فوق التراب.
وقد عهدت البشرية في مسيرتها الطويلة نظام الاستعباد وسخّرت من بني جنسها بشرا مستعبدا من قبل البشر الآخر وموظفا لخدمته وتحقيق غاياته. والمتاجرة بالعبيد معروفة في التأريخ بمرارتها وقسوتها وأساليبها في تحويل البشر إلى قطيع. وقد تحققت بعض الحركات التحررية في القرنين الماضيين من أجل تحطيم هذا النظام الاجتماعي التعسفي, فساهمت نوعا ما في القضاء على سياسة الاستعباد الاجتماعي , فانتهت تجارة العبيد في أوائل القرن التاسع عشر بعد أن كانت أربح تجارة عرفها التأريخ آنذاك. وألف عبد الرحمن الكواكبي كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" وفيه دلالات وتفاعلات توضيحية عن علاقة الاستبداد بالاستعباد وشرورهما على المسيرة البشرية ونتائجهما الضارة دوما. وتم إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 ومعاهدة الأمم المتحدة التكميلية لعام 1956 بشأن إلغاء العبودية وتجارة ومؤسسات الرقيق الشبيهة بالعبودية.
لكن الاستعباد كسلوك قد تواصل بين البشر وفقا لمواطن الاختلاف بينهم, وتعددت أسبابه وتعقدت تقنياته وتطورت وتجللت بجلابيب ثقيلة ومتعددة يصعب الكشف عنه فيها. فقد يكون الاستعباد بسبب الرأي و المذهب والمدرسة والاعتقاد وغيرها من الأسباب التي تظهر على أنها ذات منحى حضاري وفيها توجه إنساني لكنها في جوهرها ذات غايات استعبادية وتعسفية قاسية. وأصبح الاستعباد ليس فرديا وحسب وإنما جماعيا وأكثر, فقد سُلبت شعوب بالكامل من حريتها ووُضع قيد الاستعباد في أعناقها وراحت تئن وتعاني من فقدان قدرتها على الحياة مثل باقي البشر الذي ينعم بالحرية ويتلذذ بطعم الرخاء والمدنية. بل وأصبحت الحرية تساند الاستعباد لأنه يوفر لها القدرة على الاستمرار ويمدها بالعقول والأفكار وبالقدرات الاقتصادية اللازمة لتحقيق أعلى درجات التعبير المتحررة من كل قيد أو رادع. ولم تخلو المسيرة الأرضية يوما من ظاهرة الاستعباد ومضت وفقا لمعايير القِوى والتوازنات المهيمنة على حركة الحياة فوقها والتي تدير دفة الأحداث بموجب مصالحها وتوجهاتها في تحقيق أكبر قدر من إحكام القبضة على عنق الآخر المسلوب من إرادته وتقرير مصيره.
ولكي يتحقق مفهوم الاستعباد لا بد من إشاعة الثقافة المتصلة به والمساهمة في تقريبه إلى النفوس المستهدفة لكي يتم قيادتها بسلاسة وبجهد قليل. وبذلك يتم توفير كل أسباب صناعة القطيع البشري الذي يركض وراء مَن يقرر مصيره ويقوده بلا رأي إلى حيث يريد ووفقا لما هو مطلوب منه, فترى مناهج ثقافة استلطاف دور الضحية وسفح الدموع وجلد الذات والإمعان في القسوة عليها وعلى غيرها. ولكي يتحقق الاستعباد السافر لا بد للناس أن ينشغلوا بأنفسهم وببعضهم البعض لكي يكون سيدهم في مأمن من شرورهم ولكي يكونوا في حالة اعتماد تام عليه وعدم القدرة على الحياة من دونه , لأنه سيكون منقذهم من شرور بعضهم البعض. وتلك ميكانيكية التفاعل البشري التي عهدتها البشرية بعد أن تحررت من الاسترقاق والمتاجرة بالرقيق, فانتقلت من ذلك الأسلوب التجاري المباشر إلى أسلوب آخر أكثر تعقيدا وأشد قسوة ومدنية وحضارة من سابقه, لأنها قد وفرت جهدها واقتصادها في توفير من ينوبون عنها في استعباد أبناء جلدتهم وتوفير أعظم الأرباح لسيدهم الذي صنع منهم ما يريده من أدوات مناسبة للفوز بغاياته.
ويبدو أن البشرية لا يمكنها أن تتجاوز عقدة الاستعباد وكأنها من ضرورات البقاء والتواصل, فلا تستطيع أن تتخيل الحياة من غير هذا التفاعل السلبي ما بين أبناء الأرض جميعا, فيكون القليل منهم حرا والكثير تحت أهوال الاضطهاد المختلفة ويعاني من شدة الحياة وقسوتها ومرارة أيامها وحرمانها له من كل أسباب الرجاء والأمل, ويعيش في عالمه المحبَط الأسود الذي يدفع به للقفز في أحواض المآسي والويلات التي تفوق الخيال البشري الحر.
ولهذا فأن عدد البشر المضطهد في ازدياد, لأن في الكثرة رد اعتبار, مما يتسبب في المآسي المروعة والخصومات الشديدة التي تفضي إلى الهلاك الدائم والكره القائم ما بين أبناء حواء وآدم. فآلية الصراع تحتم أن تكون الحركة بمسارين متضادين, فالحر يتمسك بحريته ويريد أن يراها ويحافظ عليها ويستشعرها من خلال تحقيق ما لا يريده في الآخر الذي يريد أن يتخلص من قيده ويكون حرا هو الآخر. فهذا يمنعه الخوف والجشع وذاك يدفعه الشوق والطمع.
" الحر إلى الخير سابق, والعبد من مواطنه آبق"
إن الظلم استعباد والفقر استعباد والجوع استعباد والتهجير استعباد وإشاعة الخوف والقلق وعدم الأمان استعباد, وكذلك سرقة البشر من أرضه وروحه وكيانه وكل ما يمت بصلة إليه وطرحه في أسواق الضياع الحضارية ذات القدرات المعاصرة على تفريغه من ذاته وقيادته بملء إرادته المقيّدة إلى حيث تحقيق الغايات الشامخة.
وخلاصة السعادة الأرضية تتمثل في هذا القول لا غير, لأن المشاكل البشرية في معظمها مردها إلى نهج البشر طريق العبودية للبشر الذي يسخره لتحقيق غاياته الخفية.
"لا تكن عبد غيرك, وقد جعلك الله حرا"
فلماذا لا يريد الناس حريتهم, بل يتبعون ويصنعون ما يستعبدهم ويذيقهم أقسى أنواع الظلم والعناء؟!
سؤال يبقى بلا جواب وعلمه عند علام الغيوب والأسباب.
هذه الصرخة العظيمة المجلجلة النافذة في جسد الأيام كالضوء الساطع, والهادرة في أعماق النفوس البشرية منذ أربعة عشر قرنا وستبقى إلى الأبد عنيفة فائقة المعاني والدلالات, لأنها قد عبرت عن مفتاح السعادة الأرضية والبناء الحضاري الجميل الذي يحبه مبدع الأكوان وخالق الإنسان. وبرغم هذا الوعي الكبير وقوة الإرادة الإنسانية في تحقيق الحياة الحرة السعيدة القائمة في رياض العدل والسماحة والسلام, فأن البشرية لازالت في مأزق العبودية وقوانين التفاعلات الناجمة عنها والتي تتسبب في إدامة الويلات والبؤس المرير فوق التراب.
وقد عهدت البشرية في مسيرتها الطويلة نظام الاستعباد وسخّرت من بني جنسها بشرا مستعبدا من قبل البشر الآخر وموظفا لخدمته وتحقيق غاياته. والمتاجرة بالعبيد معروفة في التأريخ بمرارتها وقسوتها وأساليبها في تحويل البشر إلى قطيع. وقد تحققت بعض الحركات التحررية في القرنين الماضيين من أجل تحطيم هذا النظام الاجتماعي التعسفي, فساهمت نوعا ما في القضاء على سياسة الاستعباد الاجتماعي , فانتهت تجارة العبيد في أوائل القرن التاسع عشر بعد أن كانت أربح تجارة عرفها التأريخ آنذاك. وألف عبد الرحمن الكواكبي كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" وفيه دلالات وتفاعلات توضيحية عن علاقة الاستبداد بالاستعباد وشرورهما على المسيرة البشرية ونتائجهما الضارة دوما. وتم إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 ومعاهدة الأمم المتحدة التكميلية لعام 1956 بشأن إلغاء العبودية وتجارة ومؤسسات الرقيق الشبيهة بالعبودية.
لكن الاستعباد كسلوك قد تواصل بين البشر وفقا لمواطن الاختلاف بينهم, وتعددت أسبابه وتعقدت تقنياته وتطورت وتجللت بجلابيب ثقيلة ومتعددة يصعب الكشف عنه فيها. فقد يكون الاستعباد بسبب الرأي و المذهب والمدرسة والاعتقاد وغيرها من الأسباب التي تظهر على أنها ذات منحى حضاري وفيها توجه إنساني لكنها في جوهرها ذات غايات استعبادية وتعسفية قاسية. وأصبح الاستعباد ليس فرديا وحسب وإنما جماعيا وأكثر, فقد سُلبت شعوب بالكامل من حريتها ووُضع قيد الاستعباد في أعناقها وراحت تئن وتعاني من فقدان قدرتها على الحياة مثل باقي البشر الذي ينعم بالحرية ويتلذذ بطعم الرخاء والمدنية. بل وأصبحت الحرية تساند الاستعباد لأنه يوفر لها القدرة على الاستمرار ويمدها بالعقول والأفكار وبالقدرات الاقتصادية اللازمة لتحقيق أعلى درجات التعبير المتحررة من كل قيد أو رادع. ولم تخلو المسيرة الأرضية يوما من ظاهرة الاستعباد ومضت وفقا لمعايير القِوى والتوازنات المهيمنة على حركة الحياة فوقها والتي تدير دفة الأحداث بموجب مصالحها وتوجهاتها في تحقيق أكبر قدر من إحكام القبضة على عنق الآخر المسلوب من إرادته وتقرير مصيره.
ولكي يتحقق مفهوم الاستعباد لا بد من إشاعة الثقافة المتصلة به والمساهمة في تقريبه إلى النفوس المستهدفة لكي يتم قيادتها بسلاسة وبجهد قليل. وبذلك يتم توفير كل أسباب صناعة القطيع البشري الذي يركض وراء مَن يقرر مصيره ويقوده بلا رأي إلى حيث يريد ووفقا لما هو مطلوب منه, فترى مناهج ثقافة استلطاف دور الضحية وسفح الدموع وجلد الذات والإمعان في القسوة عليها وعلى غيرها. ولكي يتحقق الاستعباد السافر لا بد للناس أن ينشغلوا بأنفسهم وببعضهم البعض لكي يكون سيدهم في مأمن من شرورهم ولكي يكونوا في حالة اعتماد تام عليه وعدم القدرة على الحياة من دونه , لأنه سيكون منقذهم من شرور بعضهم البعض. وتلك ميكانيكية التفاعل البشري التي عهدتها البشرية بعد أن تحررت من الاسترقاق والمتاجرة بالرقيق, فانتقلت من ذلك الأسلوب التجاري المباشر إلى أسلوب آخر أكثر تعقيدا وأشد قسوة ومدنية وحضارة من سابقه, لأنها قد وفرت جهدها واقتصادها في توفير من ينوبون عنها في استعباد أبناء جلدتهم وتوفير أعظم الأرباح لسيدهم الذي صنع منهم ما يريده من أدوات مناسبة للفوز بغاياته.
ويبدو أن البشرية لا يمكنها أن تتجاوز عقدة الاستعباد وكأنها من ضرورات البقاء والتواصل, فلا تستطيع أن تتخيل الحياة من غير هذا التفاعل السلبي ما بين أبناء الأرض جميعا, فيكون القليل منهم حرا والكثير تحت أهوال الاضطهاد المختلفة ويعاني من شدة الحياة وقسوتها ومرارة أيامها وحرمانها له من كل أسباب الرجاء والأمل, ويعيش في عالمه المحبَط الأسود الذي يدفع به للقفز في أحواض المآسي والويلات التي تفوق الخيال البشري الحر.
ولهذا فأن عدد البشر المضطهد في ازدياد, لأن في الكثرة رد اعتبار, مما يتسبب في المآسي المروعة والخصومات الشديدة التي تفضي إلى الهلاك الدائم والكره القائم ما بين أبناء حواء وآدم. فآلية الصراع تحتم أن تكون الحركة بمسارين متضادين, فالحر يتمسك بحريته ويريد أن يراها ويحافظ عليها ويستشعرها من خلال تحقيق ما لا يريده في الآخر الذي يريد أن يتخلص من قيده ويكون حرا هو الآخر. فهذا يمنعه الخوف والجشع وذاك يدفعه الشوق والطمع.
" الحر إلى الخير سابق, والعبد من مواطنه آبق"
إن الظلم استعباد والفقر استعباد والجوع استعباد والتهجير استعباد وإشاعة الخوف والقلق وعدم الأمان استعباد, وكذلك سرقة البشر من أرضه وروحه وكيانه وكل ما يمت بصلة إليه وطرحه في أسواق الضياع الحضارية ذات القدرات المعاصرة على تفريغه من ذاته وقيادته بملء إرادته المقيّدة إلى حيث تحقيق الغايات الشامخة.
وخلاصة السعادة الأرضية تتمثل في هذا القول لا غير, لأن المشاكل البشرية في معظمها مردها إلى نهج البشر طريق العبودية للبشر الذي يسخره لتحقيق غاياته الخفية.
"لا تكن عبد غيرك, وقد جعلك الله حرا"
فلماذا لا يريد الناس حريتهم, بل يتبعون ويصنعون ما يستعبدهم ويذيقهم أقسى أنواع الظلم والعناء؟!
سؤال يبقى بلا جواب وعلمه عند علام الغيوب والأسباب.
Comment