لم يكن وديع فرنسيس الشهير باسم وديع الصافي قد اكمل بعد السنتين من عمره عندما اذهل خاله نمر العجيل بقوة صوته ونقاوته. اذ كان يطيب له ان يمسك بيده ويجول واياه في احياء بلدة نيحا في البقاع حيث مسقط رأسه.
وعند سماع صياح الديك كان الطفل يتوقف لبرهة ويصيح بدوره مقلداً الديك ببراعة فيربت الخال على كتفه اعجاباً وهو يتمتم «مش معقول ولد بها العمر بيملك هالصوت».
وشاءت الصدف ان يردد العبارة نفسها الراحل محمد عبد الوهاب عندما سمعه يغني اوائل الخمسينات «ولو» المأخوذة من احد افلامه السينمائية وكان وديع يومها في ريعان الشباب. فشكلت هذه الاغنية علامة فارقة في مشواره الفني وتربع من خلالها على عرش الغناء العربي، لقب بصاحب الحنجرة الذهبية وقيل عنه في مصر مبتكر «المدرسة الصافية» (نسبة الى وديع الصافي) في الاغنية الشرقية. انهالت العروض على وديع لاحياء الحفلات وتمثيل الافلام وانقلبت حياته رأساً على عقب فصار ملك الغناء من دون منازع.
عاش وديع الصافي المولود عام 1921 طفولة صعبة غير مستقرة. عرف الفقر والعوز فهو الاخ الاصغر لتوفيق والاكبر لكل من ليندا وماري وجاندارك وتريز وايليا وناديا المعروفة فنياً باسم هناء الصافي، واشتهرت باغنية «يا بيتي يا بوايتاتي». تنقل وديع في اكثر منطقة لبنانية بسبب طبيعة مهنة الاب، الذي كان خيالاً في قوى الأمن الداخلي، ولاحقاً مد يد العون لوالده وهو لم ينه بعد الثالثة عشرة من عمره عندما عمل مساعداً له في المؤسسة الأمنية نفسها.
ورغم ممانعة الام والاب خوض ابنهما المعترك الفني، فإن وديع وجد ملاذه عند خاله نمر الذي كان يدربه على عزف العود بعد عودته من «النوبطشية». ثمرة هذا التعاطف تمثل بآلة عود اهداها له الخال وما زال وديع يحتفظ بها حتى الآن.
العتابا... الغزيّل... ابو الزلف وغيرها من اغاني الفولكلور اللبناني، كان ينشدها وديع بجدارة فلفت انتباه زملائه واساتذته في مدرسة الضيعة (نيحا) تحت السنديانة وفي الهواء الطلق وبعدها في مدرسة الآباء المخلصين في بلدة جون.
اول اجر قيّم تقاضاه في بداية مشواره الفني كان ثماني ليرات ذهبية من الست نظيرة جنبلاط والدة الزعيم الدرزي الراحل كمال جنبلاط، وذلك لقاء غنائه لها وهي طريحة الفراش وكان يومها لا يتجاوز الحادية عشرة. عام 1938 انتقلت عائلة فرنسيس الى بيروت وهناك لعبت الصدفة دورها. عندما دخل عليه شقيقه توفيق يحمل قصاصة ورق عن اعلان لمسابقة غنائية تنظمها اذاعة لبنان الرسمية والمعروفة حينذاك باذاعة الشرق الادنى.
شارك وديع في المسابقة ونال الجائزة الاولى في الغناء من بين اربعين متباريا ولشدة اعجاب لجنة التحكيم بصوته وبمقدمهم رئيسها اميل خباط طلبت منه الانتساب رسمياً الى الاذاعة واطلقت عليه اسم وديع الصافي بدل وديع فرنسيس. استطاع الصافي وفي فترة قصيرة ابراز موهبته على افضل وجه، وكانت اول اغنية فردية له بعنوان «يا مرسال النغم» وهو لا ينسى اليوم الذي اضطر فيه ان يحل مكان احد الشيوخ ليؤذن لصلاة العصر، وانهالت بعدها الاتصالات والرسائل على الاذاعة تسأل من هو هذا الشيخ صاحب هذا الصوت الشجي؟.
لم تتسع بيروت للمطرب الصغير الباحث عن الافضل، فسافر اكثر من مرة بحثاً عن لقمة العيش وكانت بدايته مع احد متعهدي الحفلات من آل كريدي، وذلك اثناء الحرب العالمية الثانية عندما اختاره ليقوم بجولة فنية في دول اميركا اللاتينية المزدهرة حينها بالصناعة والزراعة. استقر في البرازيل ثم عاد الى لبنان ليكتشف ان الاغنية اللبنانية ما زالت في بداياتها لولوج العالم العربي. وعندما عرف بالنجاح الكبير الذي حققته اغنية الراحل فريد الاطراش في تلك الاثناء «يا عوازل فلفلو» قرر ان يغامر باغنية جديدة من نوعها بعنوان «عاللوما» ذاع صيت وديع الصافي بسبب هذه الاغنية التي صارت تردد على كل شفة ولسان واصبحت بمثابة التحية التي يلقيها اللبنانيون على بعضهم بعضا.. وكان اول مطرب عربي يغني الكلمة البسيطة وباللهجة اللبنانية بعدما طعمها بموال «عتابا» الذي اظهر قدراته الفنية.
على المستوى العائلي حافظ وديع على مكانته المهمة لدى الجميع فهو بنظرهم «زينة المحاضر» خفيف الظل، صاحب حضور محبب الى القلوب، ومن بين القلوب التي دقت له بشدة قلب ملفينا فتزوجها وهي في الثلاثين من عمرها وقد اختارتها له والدته التي كانت تربطها صلة قرابة بوالدة العروس اوديت... وهو يعتبر حماته والدته الثانية المؤتمنة على اسراره وخزينة امواله، اذ كان يمدها بالقروش الفائضة عنه بعيداً عن نظر والديه فتخبئها له ويشتري بها فيما بعد بذلة ما او قطعة ثياب يرتديها في احدى حفلاته الصغيرة.
ورزق وديع بدينا ومارلين وفادي وانطوان وجورج وميلاد. ولم يكن لدى ابو فادي المتسع من الوقت للاهتمام باولاده فكان يغيب عنهم اياماً طويلة منشغلاً بتمثيل فيلم او احياء حفلة ما خارج لبنان، ولذلك عندما رزق فيما بعد بالاحفاد وعددهم حتى الآن 15 قرر التفرغ لهم للتعويض عما فاته مع ابنائه.
لم يشجع ابو فادي اولاده على دخول مضمار الغناء الا انه بالمقابل لم يجبرهم على العكس.
وغالباً ما همس الى المقربين منه، ان الوحيد الذي يمكن ان يكون خليفته هو ابنه انطوان الا ان «الخليفة العتيد» الذي رافق والده في الحفلات واستوديوهات التسجيل منذ نعومة اظافره قرر البقاء على مسافة من اجواء الغناء.
اراد وديع الصافي ان يثبت خطواته الفنية اكثر فاكثر، فحاول ذلك جاهداً اوائل الستينات عندما عرض عليه نقولا بدران والد المطربة الكسندرا بدران (باسم نور الهدى) في مصر. هناك تعرف الصافي الى ملحنين وممثلين مصريين ومكث حوالي العام ليعود الى لبنان ويتبناه هذه المرة محمد سلمان زوج المطربة نجاح سلام. شارك وديع مع المطربة المعروفة في اكثر من فيلم سينمائي وبينها «غزل البنات» ومن ثم مع صباح في «موّال» و«نار الشوق» عام 1973.
جذب المطرب الاجيال بصوته، اطرب الكبار والصغار فغنى مئات الاغاني، منها ما افرح القلوب مثل «لرميلك حالي من العالي» و«لبنان يا قطعة سما» و«جايين» ومنها ما حرك الحنين لدى المهاجرين كاغنية «عا الله تعود عا الله».
ويقال ان اغنيتي «ولو» و«ندم» كانتا بمثابة باب جديد تنطلق منه الاغنية العربية فاستوحيت منهما اغان كثيرة بينها «ايظن» من شعر نزار قباني، التي غناها محمد عبد الوهاب وبعده نجاة الصغيرة، وتتمحور حول قصة تحاكي المستمع وتداعب خياله.
ولم يشأ ابن الارز ان يستسلم يوماً للنمط العادي، او يقف مكتوف الايدي متأثراً بزحف السنين التي طالته فأحيا اكثر من مائة مهرجان في بعلبك، صيدا وصور ودير القلعة. وشارك في افتتاح اكثر من ليلة لبنانية.
على ابواب الثمانين لبى الصافي رغبة منتج لبناني شاب يدعى ميشال الفترياديس الذي دعاه لاحياء حفلات غنائية في لبنان وخارجه، جمعية فريق غنائي كوبي وبمقدمهم خوسيه فرنانديز وكذلك المطربة حنين لم يتردد وحصد نجاحاً منقطع النظير اعاد وهج الشهرة الى مشواره الطويل مطعماً بالعالمية. لم يغب يوماً عن برامج المسابقات التلفزيونية الغنائية قلباً وقالباً فوقف يشجع المواهب الجديدة التي رافقته وهو يغني اشهر اغانيه وبينها «عندك بحرية يا ريّس» والمعروفة انها ثمرة تعاون بينه وبين الراحل محمد عبد الوهاب.
عاش وديع الصافي فترة طويلة رحالة، يتنقل من بلاد الى اخرى وابرزها البرازيل وفرنسا، حيث بقي فيها طيلة فترة الحرب اللبنانية. تعرض لاكثر من نكسة صحية منها عام 1979 عندما اصيب بمرض باكتيري في رئتيه ومرة اخرى عام 1989 عندما خضع الى عملية قلب مفتوح. ومنذ حوالي السنتين اضاء اللبنانيون الشموع من اجل وديع الصافي بعد ان اصيب بوعكة صحية ألمت بقلبه المتعب بقي على اثرها فترة في المستشفى.
كرّمه اكثر من رئيس جمهورية وحمل اكثر من وسام استحقاق منها خمسة اوسمة لبنانية نالها ايام كميل شيمعون، فؤاد شهاب وسليمان فرنجية والياس الهراوي. اما الرئيس اللبناني اميل لحود فقد منحه وسام الارز برتبة فارس.
حمل ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، الا انه يفتخر باللبنانية ويردد ان الايام علمته بان ما اعز من الولد الا البلد... وهو مستعد للبسمة في اي لحظة ويصفه ابنه انطوان انه «يضحك بالعرض» اي من كل قلبه. من احب الاغاني الى قلبه «الليل يا ليلى»... ووصيته الدائمة لاولاده ان يتسلحوا بالمحبة: «لتكن المحبة زادكم اليومي وانتم تعملون... وانتم تأكلون وانتم تتحدثون وانتم تغنون».
Comment