مي الياس من بيروت: في الوقت الذي كانت السماء تبكي فيه على بيروت، وتغسل شوارعها من دماء الضحايا، وتطفيء نيران الإطارات المشتعلة التي تلوث هواءها، كان نيشان يجتمع بالسيدة ماجدة الرومي ليوجه لها الدعوة لتحل ضيفة على برنامجه العراب، البرنامج الذي كان قد أصر على تصويره في لبنان رغم أن قراره كان مجازفة إنتاجية في ظل عدم الإستقرار الأمني الذي تعيشه بيروت منذ 3 سنوات.
ليلتها ومع إغلاق مطار رفيق الحريري، وفي ظل الإشتباكات المسلحة، وضرب الحصار حول مناطق عدة من بيروت، كان السؤال هل يتوقف أم يستمر ويعبر عن إرادة الحياة، والجواب كان أكيد سيستمر طالما كان ذلك بالإمكان.
إذن لابد أن لا تكون هذه الحلقة ككل الحلقات، لأنها تخرج في ظل ظرف ليس ككل الظروف..
كان صوت الرعد يعلو على أصوات القذائف، وكأنها طريقة الرب للتعبير عن غضبه مما يحدث على الأرض.
وافقت الماجدة على دعوة نيشان لأنها عودتنا دوماً وفي كل الأزمات أن تكون الصوت الصادق الذي يعبر عن الأغلبية الصامتة التي لا صوت لها.
ليل الجمعة خلت شوارع بيروت التي تكون عادة مزدحمة بشكل إستثنائي ليلة عطلة نهاية الأسبوع، كنت اتوجه بسيارتي الى مبنى البيروت هول الذي يضم إستوديوهات MBC وتلفزيون المستقبل مجتمعة، وتحذيرات الأصدقاء من التنقل في مثل هذه الظروف لم تنقطع.. أحدهم قال لي: "هذه ليست شجاعة إنه ضرب من الجنون"
فأجبته بعناد: "إن كانت ماجدة الرومي مجنونة يشرفني أن أكون مجنونة أنا أيضاً".
قال الآخر: "الحلقة مباشرة لست بحاجة لأن تكوني هناك لتكتبي عنها"... هذا صحيح ... أفكر قليلاً ... أشعر بالتردد.. سيكون الوقت متأخراً عندما تنتهي الحلقة، وعلي أن أعود وحيدة في شوارع مدينة غير مستقرة، أمر لا يخلو من المخاطرة.
كانت الساعة قد قاربت الثامنة والنصف مساءاً، إتصلت بصديق من فريق العمل لأتأكد منه بأن الحلقة لا زالت قائمة، فكان الجواب "بالتأكيد، والسيدة ماجدة وصلت منذ قليل".
سألته: من هناك من الزملاء؟
جاء الجواب: "لا أحد.. ".
صمت قليلاً ... فسألني: هل غيرت رأيك؟ لست قادمة؟
فأجبته دون تردد وقد حسمت أمري: بالطبع قادمة ... أنا في الطريق اليكم.
عندما وصلت الى مبنى "البيروت هول" فوجئت بالساحة الخارجية تعج بالجمهور والحركة، كما في الأيام العادية.
وعندما وصلت الى غرفة الإستقبال التي نتجمع فيها عادة قبل أن يبدأ البرنامج، شاهدت الماجدة تغادر الأستوديو وتتجه نحوي محاطة بفريق عملها: مديرة أعمالها السيدة منى سليمان، وشقيقها عوض الرومي، ومدير مكتبها السيد خليل شكري، والمصورة التي ترافقها دائماً مايا، ويرافقهم طوني سمعان، وناجي نحال المنتج المنفذ للبرنامج.
تعلق نظري بها، بدت أنيقة في فستانها الأسود، والوشاح الذي أحطات به كتفيها، ,كأنها كانت تعبر عن رغبة في الإحتواء.
التقت الأعين... لا تعرفني ولا أعرفها على المستوي الشخصي، أومأت اليها بالتحية... فقابلتني بإيماءة خجولة، ونصف إبتسامة ممزوجة بالتوتر.
لم أحدثها أكتفيت بمتابعتها بنظري وهي تتوجه الى غرفة الماكياج في الطابق العلوي، لتستعد للحلقة.
وقفت مع الزميل داني صيرفي وبعض العاملين الآخرين في الـ MBC كان موضوعنا طبعاً التطورات في الشارع، ماذا حصل... وأين تجري الإضطرابات..
والمشكلة أننا حائرون كيف نعبر عن مشاعرنا، لا أحد مع .. والكل ضد .. "الإقتتال الداخلي" لكنه يحدث رغم أنف الجميع.
التقيت باسم كريستو حياني، وسألته عن الأوضاع وما إذا كانت هناك خطط بديلة في حال إستمر الوضع على ما هو عليه، فأجاب:" إذا تعذر العمل هنا ربما ننتقل الى الخارج... لاشيء مؤكد حتى الآن.. نعمل الليلة بربع فريق العمل، لأن بقية العاملين في البرنامج تعذر عليهم الوصول".
سألته:" من أين أتيتم بالجمهور توقعت أن تخرج الحلقة بلا جمهور الليلة"... قال لي: "لا أعلم ربما أتوا من المناطق التي لم يمتد اليها النزاع".
بدأ العد التنازلي 9 دقائق للهواء، باسم يحاول أن ينهي عشاءه المعتاد، وطوني سمعان يضيفني "شوكولا"، هو طقس مقدس لديه قبل الهواء، فالحلوى تمنحه الطاقة.
تخرج السيدة ماجدة متوجهة الى الأستوديو، نلحق بها جميعاً، تتوقف في غرفة الإستقبال لدقائق، يقترب نيشان وهو يبحث عني .. احدهم قال له بأنني موجودة، أراه ولا يراني وسط الزحمة، فيدله داني صيرفي على مكان وقوفي، يشكرني لأنني أتيت، ويحاول ان يستدرجني ليعرف كيف علمت بأن الضيفة ستكون ماجدة الرومي ونشرت الخبر في الوقت الذي كان لا يزال مجتمعاً بها ولا يعلم أحد بالأمر.
إبتسمت وقلت له لن أكشف لك عن مصادري، ينضم الينا طوني سمعان ويقول له ممازحاً "ولا الـ FBI" ...
وكنت في حينها وبعد كتابتي للخبر قد أرسلت رسالة نصية لطوني للتأكيد على صحة الخبر، رد بان نيشان مجتمع معها الآن، عندها ضغطت على زر النشر...وأجبته برسالة نصية: الخبر صار على الموقع... رد برسالة قصيرة: يا ساتر FBI.
يسألني طوني إذا كان الخبر لا يزال على الموقع، أرد بالإيجاب، فيتوجه الى كومبيوتر قريب منا، ويفتح الموقع ويدخل ليتصفح بسرعة التعليقات على الخبر. الماجدة تنظر الينا وتتابع الحوار الجاري مبتسمة.
ونيشان مستمر في إستجوابه لي: حقيقة من باب الحشرية فقط كيف عرفت... أضحك وأقول له لن أخبرك. يتركني مستسلماً، ويتوجه الى السيدة ماجدة الرومي يلتقطان بعض الصور معاً ويتوجهان الى الأستوديو.
جلسنا جميعاً -فريق عمل السيدة ماجدة الرومي بأكمله، وأنا- في غرفة الإستقبال حيث يوجد جهاز تلفزيون لمتابعة البرنامج.
كانت الحلقة خاصة بكل ما في الكلمة من معنى، فألغيت جميع الفقرات المعتادة، وبعد مقدمة جميلة، طلب نيشان من الماجدة أن تهدي وردة العراب فأهدتها الى "كل من يدافع عن الحب في بلد بحاجة الى كثير من الحب".
كانت عيناها تلمعان، وصوتها يرتجف، بدت كمن تقاوم دموعها لكي لا تنهمر على خدها طيلة الوقت. بدا وجعها كبيراً وحزنها عميقاً على بيروت ...ست الدنيا.
في البداية عبرت عن رفضها للإستسلام ولامت من إعتكفوا في بيوتهم وسلموا أنفسهم للإحباط، لم تنكر بأن الظرف صعب، لكنها في نفس الوقت كانت متفائلة بأن الغد سيكون أفضل.
كنت وأنا أتابعها أشعر بنقيضين يجتمعان في هذه السيدة الرائعة، هناك هدوء وسكينة رائعين ومريحين في ملامحها أحياناً يبدوان أقرب الى الخشوع، لكن في داخلها في نفس الوقت عنفوان، وغليان، وغضب مكتوم...
"نحن شعوب مخدرة بالموت".. وتكمل: "أكتر شي بفهم بالسياسة بلبنان ما عم بفهم شي"...
وتصرخ بألم : "إتركوا مطرح للحلم... "
شعرت بأنها تتحدث بلسان كل لبناني ... كانت لسان الناس الذين فقدوا القدرة على التعبير، فآثروا الصمت.
تنساب كلماتها بحرقة: "نحن شعب يتحايل على الحياة ليعيش"....
التأثر يبدو علينا جميعاً، أشعر برغبة بالبكاء غريبة...
أعود لمتابعتها وهي تتحدث عن واجبها وبأن صوتها إذا لم يُسمِع، وإذا بقيت صامتة في ظرف كهذا، فأنها تشعر وكأنها تهدر كرامتها".
وعندما سألها نيشان مالحل برأيك...
أجابت بكل حكمة ودون تردد:" إذا كانوا عاجزين عن الإتفاق لينبذوا الطائفية، ويفصلوا الدين عن الدولة، ويعلمنوا البلد.. ويريحونا من الإنقسام... ليحكم من هو جدير بالحكم، وليس لأنه ممثل عن هذه الطائفة أو تلك".
إختصرت بهذا الجواب كل مشاكل لبنان. كم تمنيت لحظتها أن تكون هي ومن مثلها أصحاب القرار في هذا العالم.
عرض نيشان مقاطع من كلمتها في تأبين جبران تويني التي باتت حديث الناس في لبنان بسبب قوتها وتأثيرها في النفوس في حينها... وسألها إن كانت قد واجهت إتهامات لاحقاً بأنها تنتمي لفريق معين... وأن أقلاماً إنبرت لتكتب ضدها وبقسوة... أجابته: " من كتب ذلك عبر عن رأيه ولست بموقع يخولني محاكمته، جل همي كان أن أرضي ضميري وأقوم بواجبي تجاه ربي وبلدي. وأضافت بأنها عندما عادت الى المنزل في تلك الليلة شعرت بالراحة. ونفت ان تكون مع فريق ضد الآخر، وعبرت عن محبتها وإحترامها للآخر.
(هنا علقت مديرة اعمالها منى قائلة تلقينا بعد هذه الكلمة خطابات شكر من مختلف الزعامات السياسية من داخل وخارج لبنان، من الطرفين موالاة ومعارضة... الجميع شعر بأنها عبرت في كلمتها عنه).
لم تخف الماجدة تعرضها للضغوط لكي لا تظهر في الحلقة وقالت: اتفهم موقفهم لأنهم خشيوا من أن أتفوه بكلمة ربما تفسر ضدي.
وعندما حاول نيشان ان يعرف هوية الأشخاص الذين نصحوها بعدم الظهور في الحلقة موهت الإجابة.
رفضت أن تعلق على الحملة التي شنت على فيروز لأنها عرضت مسرحيتها في دمشق، قائلة: أحترم رأيها وقرارها هى رأت أن هذه مصلحة لبنان فيجب أن أحترمها ... لست في موقع يخولني أن أدين أي أنسان".
وعندما طرح نيشان فكرة أن تجتمع مع السيدة فيروز في عمل مشترك أو حفل مشترك لتدعوان الى السلام ... نظرت اليه مستغربة وأجابته بذكاء: فيروز دولة لوحدها... فيروز لبنان في المنفى... وأكملت بأنها لا يمكن أن تستمع لصوت فيروز دون أن تبكي... ووصفتها بحارسة الهيكل اللبناني.
عندما عرض نيشان نشيد للحب إستذكرت السيدة منى مديرة أعمالها كيف صوروا العمل خلال يوم واحد، في قلعة جبران، حيث قدمت الماجدة الأغنية لمنظمة الفاو بعد أن أختيرت سفيرة لها.
تحدثت ماجدة عن أهمية الإيمان قائلة:"إذا فلت منك أيمانك بحلم يتحقق، فلت منك المستقبل".
ورداً على سؤال عن سر السكينة التي تبدو عليها دائماً قالت: " الإيمان يمنحك القدرة على السلام والتسامح ويمنحك طاقة للحب".
ووصفت حال الشعب اللبناني قائلة: "نحن حقل تجارب... شعب برسم الموت".
"حتى الطير صار يخاف، لم نعد نسمع زقزقة عصفور في لبنان".
ماجدة التي رفضت ان تغني تلك الليلة لأنها متوترة، وخشيت أن يخونها صوتها، صلت، وخنقتنا العبرة ونحن نستمع اليها وهي ترتل صلاتها بصوتها الملائكي، الشجي، العذب.
في هذه الأثناء تلقى خليل الذي كان يجلس الى جانبي رسالة نصية على هاتفه الخليوي – الذي لم يهدأ تلك الليلة- من معجب كان يتابع الحلقة يسأله فيها:"كيف يطلقون الرصاص في بلد فيه ماجدة الرومي؟!!".
Comment