رد: صور من الحفل التاريخي للسيدة فيروز في Beil hall بيروت
من عجائب فيروز

أسعد ذبيان
08/10/2010
ما الذي فعلته فيروز أمس؟ ظهرت على خشبة المسرح وأدّت أغنياتها من دون أن تنبس بشفّة غير الغناء، كعادتها التي درجت عليها منذ ما بدأت الذاكرة تسجل. فيروز فعلت ما لم يفعله أحدُ منذ عقود. وحّدت شخصياتٍ من كافة الألوان، التقوا من دون زيف، عراة على الرغم من بدلاتهم الفاخرة، ولكنّ هذا نتركه لتحليل كتّاب العواميد السياسيّة.
فلنبدأ بالعنوان: "إيه في أمل" كأنّما اقتطعته من بابلو نيرودا: "أجل، حالنا لا بأس بها، شكراً لكم، ما زال لدينا أمل".
فيروز وحّدت التصفيق، لا تشجيع على طريقة الحكمة أو الرياضي، بل على إيقاع الموسيقى والمهارة، والأخيرة سيدة نفسها، أو كما يقول محمود درويش: "والوحي حظ المهارة إذ تجتهد". ولذلك كان الوحي مخيماً فوق الأجساد التي تمايلت كلها بالألوف دفعة واحدة، على صوتٍ ملائكيّ غنّى "سلّم على بكرا".
فيروز أخرجت مئات الناس من عالمهم للحظات، فالعارضة نست جسدها في صمت اللذة، وصاحب المنصب خانته ذاكرة الشهوة فعاد طفلاً قبل الجشع بلون الصدئ، وكل منّا نسي من هو في الاسم ليكتشف من هو في المضمون. وحدهم قلّة بقوا معلّقين تبهرهم الأضواء لا البصيرة، هم من قال عنهم نيتشه انّهم لا يجيدون الرقص، فالحذار منهم.
فيروز حققت أحلام مئاتٍ بأن يتذكروا يوماً أو أن يخبروا أحفادهم أنّهم شاهدوها على منبر المسرح، وكانوا هناك بالجسد، وكانوا هناك بالروح (بالطبع تنقص المسافة عنها متراً واحداً كلما أضفنا عاماً بعد الأربعين). فيروز صنعت أغلفة الصفحات الأولى وعناوين الجرائد، ليرتاح المسافرون بين الحروف من أسماء جلاديهم. غطاها الأبيض بفستانٍ ودزينة من مصابيح الإنارة المسلطة عليها، كأنّما هي ملاكٌ مرسل (لا بل كانت ملاكاً يوحي)، وطوّقها المحبين من كل حدبٍ وصوب.
فيروز جمعت العاصمة مع شتات الوطن، والمغترب مع إبن الريف، العتب الوحيد أنّها لم تجمع الكادحين مع أرباب رزقهم. عانقت فيروز بحفلتها الأجيال، بأغانٍ لها تذكّر بمجد الزوج وشقيقه، وفواصل غنائيّة من نتاج الإبن والذي كما قال درويش أيضاً وبتصرف: "سُمّي باسمه مصادفة، وانتمى إلى عائلة مصادفة، وورث ملامحها والصفات".
فيروز دقّت باب الذاكرة في كل قلبٍ ليستحضر من ماضيه أو واقعه نحتاً لحبيبٍ أو وطنٍ أو شوقٍ لكمال، عندما صدحت تغني: "يا سلام على حبّك يا سلام". سمحت السيدة لجنينٍ في عقلنا أن ينمو، أن يشهق بكائه الأوّل بعد أن بعث حياً، سمحت له أن يتنفس بعض الأوكسجين قبل أن تقتله الاستراحة الأولى.
وحده عندما استفاق الضوء، رأينا أنفسنا نخرج من المنام الجميل. كان على العصافير أن تغرّد خارج السرب (وذلك حقّها) فرقدت الأنا الجماعيّة لتستيقظ الفرديّة في كثرٍ، استعرضوا الستان والحرير وآخر رهصات الموضة مدبرين نحو المأكل والمشرب قبل أن يعودوا خالي الوفاض.
فيروز شيّدت للمنافسة صروحٍ بيننا، فكان الصحافيّ يضيء بالولاّعة الدرب القصير أمام أنامله لتكتب جملة أم كلمة تعينه على نصٍ ينشر في الصباح، في حين قرر الموسيقيّ أن يرسم الدنيا نوتاتٍ، ويؤلف سوناتا. وقس على ذلك، بمهندسٍ سيشيّد مشروعه الجديد مع نظامٍ يستعين بمقياس ريختر لاكتشاف أدنى تحرّكات في جوف الأرض، والأرض هي نفسه، والحركة موسيقى، وآلة التسجيل عقله.
كانت فيروز تؤدي معنا كما قال نيرودا: "أود أن أعمل معك(م) ما يعمله الربيع بالأزهار". فيروز أعطت لزحمة السير للمرّة الأولى سبباً يليقُ بها، فلا رئيس مرؤس يمرّ ويسد شرياناً في بيروت، ولا شجارا يؤدي لإغلاق نصف العاصمة، حتّى سائق التاكسي الذي اعتاد شتم إدارة المرور، خشع لاسم فيروز عندما عرف سبب الزحمة. أردف يقول: "فليوفقها الله، تعطي من قلبها، صحتين عليها"، كان يفكّر بها لأنّها أعطته دائماً ولو ملكت أكثر منه.
فيروز قدّمت ذلك، زاداً يقتات به شعبٌ بأكمله. عندها نفهم مثل المسيح عندما أطعم ببضع أرغفة الخبز والسمك وفرة من البشر. فيروز البارحة، أعطت لكل شيءٍ قيمته، للملابس الفاخرة، للعطور، للألوان، لتصفيفات الشعر، للهندام، لكل تفصيلٍ خارجيّ، لأنّه لمن هو مثلها نستحق أن نتبرّج، ومن ثمّ طوّت كلّ ذلك في عتمةٍ لتكون هي وحدها النجمة.
فيروز أعطت للكلمة رونقها كأنّها تعيد ما قاله لويس أراغون: "لا شيء يسلخ بعد الآن، الكلمة المغناة عن الشفاه"، قبل أن يضيف: "إننا نتكلّم الأغنية نفسها وتربطنا الأغنية نفسها، والقفص هو القفص". والقفص كان الجسد، أمّا فيروز فقد حررتنا.

أسعد ذبيان
08/10/2010
ما الذي فعلته فيروز أمس؟ ظهرت على خشبة المسرح وأدّت أغنياتها من دون أن تنبس بشفّة غير الغناء، كعادتها التي درجت عليها منذ ما بدأت الذاكرة تسجل. فيروز فعلت ما لم يفعله أحدُ منذ عقود. وحّدت شخصياتٍ من كافة الألوان، التقوا من دون زيف، عراة على الرغم من بدلاتهم الفاخرة، ولكنّ هذا نتركه لتحليل كتّاب العواميد السياسيّة.
فلنبدأ بالعنوان: "إيه في أمل" كأنّما اقتطعته من بابلو نيرودا: "أجل، حالنا لا بأس بها، شكراً لكم، ما زال لدينا أمل".
فيروز وحّدت التصفيق، لا تشجيع على طريقة الحكمة أو الرياضي، بل على إيقاع الموسيقى والمهارة، والأخيرة سيدة نفسها، أو كما يقول محمود درويش: "والوحي حظ المهارة إذ تجتهد". ولذلك كان الوحي مخيماً فوق الأجساد التي تمايلت كلها بالألوف دفعة واحدة، على صوتٍ ملائكيّ غنّى "سلّم على بكرا".
فيروز أخرجت مئات الناس من عالمهم للحظات، فالعارضة نست جسدها في صمت اللذة، وصاحب المنصب خانته ذاكرة الشهوة فعاد طفلاً قبل الجشع بلون الصدئ، وكل منّا نسي من هو في الاسم ليكتشف من هو في المضمون. وحدهم قلّة بقوا معلّقين تبهرهم الأضواء لا البصيرة، هم من قال عنهم نيتشه انّهم لا يجيدون الرقص، فالحذار منهم.
فيروز حققت أحلام مئاتٍ بأن يتذكروا يوماً أو أن يخبروا أحفادهم أنّهم شاهدوها على منبر المسرح، وكانوا هناك بالجسد، وكانوا هناك بالروح (بالطبع تنقص المسافة عنها متراً واحداً كلما أضفنا عاماً بعد الأربعين). فيروز صنعت أغلفة الصفحات الأولى وعناوين الجرائد، ليرتاح المسافرون بين الحروف من أسماء جلاديهم. غطاها الأبيض بفستانٍ ودزينة من مصابيح الإنارة المسلطة عليها، كأنّما هي ملاكٌ مرسل (لا بل كانت ملاكاً يوحي)، وطوّقها المحبين من كل حدبٍ وصوب.
فيروز جمعت العاصمة مع شتات الوطن، والمغترب مع إبن الريف، العتب الوحيد أنّها لم تجمع الكادحين مع أرباب رزقهم. عانقت فيروز بحفلتها الأجيال، بأغانٍ لها تذكّر بمجد الزوج وشقيقه، وفواصل غنائيّة من نتاج الإبن والذي كما قال درويش أيضاً وبتصرف: "سُمّي باسمه مصادفة، وانتمى إلى عائلة مصادفة، وورث ملامحها والصفات".
فيروز دقّت باب الذاكرة في كل قلبٍ ليستحضر من ماضيه أو واقعه نحتاً لحبيبٍ أو وطنٍ أو شوقٍ لكمال، عندما صدحت تغني: "يا سلام على حبّك يا سلام". سمحت السيدة لجنينٍ في عقلنا أن ينمو، أن يشهق بكائه الأوّل بعد أن بعث حياً، سمحت له أن يتنفس بعض الأوكسجين قبل أن تقتله الاستراحة الأولى.
وحده عندما استفاق الضوء، رأينا أنفسنا نخرج من المنام الجميل. كان على العصافير أن تغرّد خارج السرب (وذلك حقّها) فرقدت الأنا الجماعيّة لتستيقظ الفرديّة في كثرٍ، استعرضوا الستان والحرير وآخر رهصات الموضة مدبرين نحو المأكل والمشرب قبل أن يعودوا خالي الوفاض.
فيروز شيّدت للمنافسة صروحٍ بيننا، فكان الصحافيّ يضيء بالولاّعة الدرب القصير أمام أنامله لتكتب جملة أم كلمة تعينه على نصٍ ينشر في الصباح، في حين قرر الموسيقيّ أن يرسم الدنيا نوتاتٍ، ويؤلف سوناتا. وقس على ذلك، بمهندسٍ سيشيّد مشروعه الجديد مع نظامٍ يستعين بمقياس ريختر لاكتشاف أدنى تحرّكات في جوف الأرض، والأرض هي نفسه، والحركة موسيقى، وآلة التسجيل عقله.
كانت فيروز تؤدي معنا كما قال نيرودا: "أود أن أعمل معك(م) ما يعمله الربيع بالأزهار". فيروز أعطت لزحمة السير للمرّة الأولى سبباً يليقُ بها، فلا رئيس مرؤس يمرّ ويسد شرياناً في بيروت، ولا شجارا يؤدي لإغلاق نصف العاصمة، حتّى سائق التاكسي الذي اعتاد شتم إدارة المرور، خشع لاسم فيروز عندما عرف سبب الزحمة. أردف يقول: "فليوفقها الله، تعطي من قلبها، صحتين عليها"، كان يفكّر بها لأنّها أعطته دائماً ولو ملكت أكثر منه.
فيروز قدّمت ذلك، زاداً يقتات به شعبٌ بأكمله. عندها نفهم مثل المسيح عندما أطعم ببضع أرغفة الخبز والسمك وفرة من البشر. فيروز البارحة، أعطت لكل شيءٍ قيمته، للملابس الفاخرة، للعطور، للألوان، لتصفيفات الشعر، للهندام، لكل تفصيلٍ خارجيّ، لأنّه لمن هو مثلها نستحق أن نتبرّج، ومن ثمّ طوّت كلّ ذلك في عتمةٍ لتكون هي وحدها النجمة.
فيروز أعطت للكلمة رونقها كأنّها تعيد ما قاله لويس أراغون: "لا شيء يسلخ بعد الآن، الكلمة المغناة عن الشفاه"، قبل أن يضيف: "إننا نتكلّم الأغنية نفسها وتربطنا الأغنية نفسها، والقفص هو القفص". والقفص كان الجسد، أمّا فيروز فقد حررتنا.
Comment