فايز قزق: أتمنى أن أكون نجما مسرحيا..لاتلفزيونيا
في طريقنا إلى «آرت كافيه» الواقع في وسط دمشق، توقَّف فايز قزق أكثر من مرة لتحية شباب أبدوا إعجابهم بدوره في مسلسل «باب الحارة». ارتبك المسرحي السوري، قبل أن يتماسك ويهمس قائلاً: «كنت أتمنى أن تكون تحية هؤلاء موجهة لي كممثل مسرحي، لا كنجم تلفزيوني». يكاد هذا الشغف بالمسرح يخصّ فايز قزق دون سواه من أبناء جيله، بعدما انخرط معظمهم في العمل التلفزيوني، وأداروا ظهرهم للخشبة من دون ندم.
يقول فايز وهو يرتشف فنجان القهوة الأول: «ما كُتب في الصحف الأميركية عن عرض «ريتشارد الثالث» يقودني إلى التشبث بالخشبة أكثر، على رغم كل الخسائر التي تواجهني هنا». العرض الذي أخرجه الكويتي سليمان البسام وجال معظم خشبات المسارح العالمية، وضع هذا الممثل اللافت أمام خيارات صعبة، وخصوصاً أمام اندحار المشروع المسرحي السوري. لكنه وصل رغم كلّ شيء إلى قناعة مفادها بأنّ المسرح سينهض من كبوته بوجود طاقات جديدة ومتجدِّدة. لهذا السبب، لم يغادر ردهات «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق. ظل مخلصاً للتدريس، يحاول مواصلة ما بدأه مؤسسو هذا المعهد، أمثال سعد الله ونوس وفواز الساجر وأسعد فضة.
يتذكر يومياته في المعهد ضمن الدفعة الأولى، وكيف تعلّم أن المسرح مكان مقدّس، وأنّه «لعبة مسلّية لكنها خطرة». قبلها، وجد قزق في مخبر الكيمياء في المدرسة الثانوية متنفساً لألعاب مسرحية بدائية، هي الوجه الآخر لما كان يقوم به من تمرينات في بيت يحتضن عائلة مؤلّفة من أحد عشر شقيقاً لأب عسكري. «لم تكن ثقافتي البصرية تتجاوز ما يبثه التلفزيون بالأبيض والأسود من أفلام مصرية وكوميديا سورية... كانت شادية معشوقتي، أما صوت
عبد الحليم حافظ فقد ساعدني في إتمام واجباتي في تنظيف المطبخ ومساعدة والدتي في أعمال المنزل بوصفي الابن الأكبر».
زمن البراءة انتهى عند عتبة المعهد، إذ وجد الممثل الشاب نفسه أمام أسئلة مختلفة عن معنى التمثيل. سيمضي في إثراء مخزونه المسرحي في «كليّة روز بروفورد» في لندن، إثر إيفاده في بعثة لإعداد الممثل، تضمن أيضاً دروساً في الإخراج المسرحي. هناك اكتشف بيتر بروك، وهارولد بنتر، وأنطوني هوبكنز، وماغي سميث. «أحسست برهبة إضافية للمسرح، لم تفارقني إلى اليوم».
هكذا عاد إلى دمشق (1988) ممثلاً ومخرجاً محترفاً، فقدّم تجربته الإخراجيّة الأولى: «رجل برجل» عن نص لبرتولد بريخت، إضافةً إلى عمله في المعهد مدرّساً لمادة فن المسرح. في منتصف التسعينيات التي شهدت تحوّلات متسارعة في المناخ الفني، تكللت بـ«هجمة الدراما التلفزيونية»، أحس فايز قزق أن الخيوط تتشابك من حوله. «شعرت بأنّ أزمة شاملة تمنعني من التخطيط بهدوء. إذ بات المشروع المسرحي مرتبطاً بمعركة أو لغم، وأنّ مصيراً مجهولاً ينتظرني، فقررت الهجرة إلى الكويت للتدريس في المعهد المسرحي هناك».
في الكويت، استمر في لملمة خيوط مشروعه على مهل. «كنت أرغب بتقديم مسرح نقي من دون تشويه أو فبركة». هكذا تعرّف عن كثب إلى جنسيات مختلفة «كويتيون وإيرانيون وهنود وباكستانيون»، وقدّم اثني عشر مشروعاً مسرحياً. «كانت فترة قاسية وممتعة في آن» يقول. بعد غياب خمسة أعوام، عاد المخرج المهاجر إلى بيته القديم في «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق، ليفاجأ بغياب نبرة السجال في الوسط الثقافي، والمسرحي، وخصوصاً أمام «شراذم مشاريع».
إلا أنّه استمر في محاربة طواحين الهواء. عمل مع جواد الأسدي في أربعة عروض، أبرزها «تقاسيم على العنبر»، و«حمّام بغدادي» (مع نضال سيجري). كما اختار أدواراً نوعية في التلفزيون، ولعب دور حسن الصبّاح في مسلسل «عمر الخيّام»، وعبد الملك بن مروان في «الحجاج»، وشارك سلسلة «أمل ما في»، إضافةً إلى أدوار لافتة في سينما عبد اللطيف عبد الحميد، مثل «رسائل شفهية»، و«ما يطلبه المستمعون»، و«خارج التغطية».
يعترف فايز قزق قائلاً: «التلفزيون ليس مشروعاً ثقافياً، إنه أفضل وسيلة اخترعتها الحكومات العربية لاعتقال مواطنيها في بيوتهم، بسبب عدم وجود سجون تستوعب الشعوب المقهورة. هكذا نابت ملاعب كرة القدم عن التظاهرات، والكافتيريات عن المقاهي الثقافية، ولم يعد أمام الأنظمة سوى تأمين المتة والبزر لمواطنيها لاستكمال أكبر عملية تخدير تمارسها يومياً ضد العقل». ويوضِّح فكرته قائلاً: «هذا المعتقل العمومي أتى على حساب المسرح والسينما، إذ تذهب الميزانيات المخصصة لهما إلى مهرجانات خاسرة، لا تترك أثراً يُذكر».
يعتبر فايز قزق أنّ المعهد العالي للفنون المسرحية هو ملاذه الأخير، وقلعته الحصينة في مواجهة الهباء. «لكن هذه القلعة بدأت بالتصدّع، وأخشى أن ندخل نفقاً مظلماً آخر، ويفسد هواء المعهد». «النفق» عنوان العرض المؤجل الذي يعمل عليه مخرجنا منذ سنتين، من دون أن يتمكن من إنجازه على الخشبة. حين نسأله عن السبب، يقول منفعلاً: «الإجابة في أدراج مديرية المسرح القومي... والحجة الجديدة لديهم: لا ميزانيّة».
ينطوي غضب صاحب «وعكة عابرة» على حماسة لإعادة الألق إلى خشبة المسرح. يريد «تخفيف حجم الكارثة والخراب والفساد... المسرح ليس مكاناً للدبكة والزعبرة، كما هو حاصل اليوم».
حين نستعيد محطات أساسية في تجربة هذا الممثل الاستثنائي، نكتشف رصيداً مسرحياً ضخماً
(48 عملاً مسرحياً)، كان آخرها «ريتشارد الثالث» لسليمان البسام الذي يقترح محاولة لاستثمار الإرث الشكسبيري، وتطويعه عربياً، لفهم آليات ظهور الديكتاتور العربي. يقول فايز قزق مختتماً: «لنفتش في آلية صناعة الديكتاتور (الثقافي)، فهو الوجه الآخر لتخلّفنا وانحطاطنا».
خليل صويلح
5 تواريخ
1959.. الولادة في دمشق.
1977.. الانتساب إلى «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق، وكان في عداد «الدفعة الأولى» لهذه المؤسسة العريقة.
1988.. بعثة إلى لندن للتدرّب على تقنيّات إعداد الممثل.
2006.. جائزة أفضل ممثل عن عرض «حمّام بغدادي» في «مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي»، مناصفةً مع زميله في العرض نضال سيجري.
2009.. «ريتشارد الثالث» (إخراج الكويتي سليمان البسام) في نيويورك.
في طريقنا إلى «آرت كافيه» الواقع في وسط دمشق، توقَّف فايز قزق أكثر من مرة لتحية شباب أبدوا إعجابهم بدوره في مسلسل «باب الحارة». ارتبك المسرحي السوري، قبل أن يتماسك ويهمس قائلاً: «كنت أتمنى أن تكون تحية هؤلاء موجهة لي كممثل مسرحي، لا كنجم تلفزيوني». يكاد هذا الشغف بالمسرح يخصّ فايز قزق دون سواه من أبناء جيله، بعدما انخرط معظمهم في العمل التلفزيوني، وأداروا ظهرهم للخشبة من دون ندم.
يقول فايز وهو يرتشف فنجان القهوة الأول: «ما كُتب في الصحف الأميركية عن عرض «ريتشارد الثالث» يقودني إلى التشبث بالخشبة أكثر، على رغم كل الخسائر التي تواجهني هنا». العرض الذي أخرجه الكويتي سليمان البسام وجال معظم خشبات المسارح العالمية، وضع هذا الممثل اللافت أمام خيارات صعبة، وخصوصاً أمام اندحار المشروع المسرحي السوري. لكنه وصل رغم كلّ شيء إلى قناعة مفادها بأنّ المسرح سينهض من كبوته بوجود طاقات جديدة ومتجدِّدة. لهذا السبب، لم يغادر ردهات «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق. ظل مخلصاً للتدريس، يحاول مواصلة ما بدأه مؤسسو هذا المعهد، أمثال سعد الله ونوس وفواز الساجر وأسعد فضة.
يتذكر يومياته في المعهد ضمن الدفعة الأولى، وكيف تعلّم أن المسرح مكان مقدّس، وأنّه «لعبة مسلّية لكنها خطرة». قبلها، وجد قزق في مخبر الكيمياء في المدرسة الثانوية متنفساً لألعاب مسرحية بدائية، هي الوجه الآخر لما كان يقوم به من تمرينات في بيت يحتضن عائلة مؤلّفة من أحد عشر شقيقاً لأب عسكري. «لم تكن ثقافتي البصرية تتجاوز ما يبثه التلفزيون بالأبيض والأسود من أفلام مصرية وكوميديا سورية... كانت شادية معشوقتي، أما صوت
عبد الحليم حافظ فقد ساعدني في إتمام واجباتي في تنظيف المطبخ ومساعدة والدتي في أعمال المنزل بوصفي الابن الأكبر».
زمن البراءة انتهى عند عتبة المعهد، إذ وجد الممثل الشاب نفسه أمام أسئلة مختلفة عن معنى التمثيل. سيمضي في إثراء مخزونه المسرحي في «كليّة روز بروفورد» في لندن، إثر إيفاده في بعثة لإعداد الممثل، تضمن أيضاً دروساً في الإخراج المسرحي. هناك اكتشف بيتر بروك، وهارولد بنتر، وأنطوني هوبكنز، وماغي سميث. «أحسست برهبة إضافية للمسرح، لم تفارقني إلى اليوم».
هكذا عاد إلى دمشق (1988) ممثلاً ومخرجاً محترفاً، فقدّم تجربته الإخراجيّة الأولى: «رجل برجل» عن نص لبرتولد بريخت، إضافةً إلى عمله في المعهد مدرّساً لمادة فن المسرح. في منتصف التسعينيات التي شهدت تحوّلات متسارعة في المناخ الفني، تكللت بـ«هجمة الدراما التلفزيونية»، أحس فايز قزق أن الخيوط تتشابك من حوله. «شعرت بأنّ أزمة شاملة تمنعني من التخطيط بهدوء. إذ بات المشروع المسرحي مرتبطاً بمعركة أو لغم، وأنّ مصيراً مجهولاً ينتظرني، فقررت الهجرة إلى الكويت للتدريس في المعهد المسرحي هناك».
في الكويت، استمر في لملمة خيوط مشروعه على مهل. «كنت أرغب بتقديم مسرح نقي من دون تشويه أو فبركة». هكذا تعرّف عن كثب إلى جنسيات مختلفة «كويتيون وإيرانيون وهنود وباكستانيون»، وقدّم اثني عشر مشروعاً مسرحياً. «كانت فترة قاسية وممتعة في آن» يقول. بعد غياب خمسة أعوام، عاد المخرج المهاجر إلى بيته القديم في «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق، ليفاجأ بغياب نبرة السجال في الوسط الثقافي، والمسرحي، وخصوصاً أمام «شراذم مشاريع».
إلا أنّه استمر في محاربة طواحين الهواء. عمل مع جواد الأسدي في أربعة عروض، أبرزها «تقاسيم على العنبر»، و«حمّام بغدادي» (مع نضال سيجري). كما اختار أدواراً نوعية في التلفزيون، ولعب دور حسن الصبّاح في مسلسل «عمر الخيّام»، وعبد الملك بن مروان في «الحجاج»، وشارك سلسلة «أمل ما في»، إضافةً إلى أدوار لافتة في سينما عبد اللطيف عبد الحميد، مثل «رسائل شفهية»، و«ما يطلبه المستمعون»، و«خارج التغطية».
يعترف فايز قزق قائلاً: «التلفزيون ليس مشروعاً ثقافياً، إنه أفضل وسيلة اخترعتها الحكومات العربية لاعتقال مواطنيها في بيوتهم، بسبب عدم وجود سجون تستوعب الشعوب المقهورة. هكذا نابت ملاعب كرة القدم عن التظاهرات، والكافتيريات عن المقاهي الثقافية، ولم يعد أمام الأنظمة سوى تأمين المتة والبزر لمواطنيها لاستكمال أكبر عملية تخدير تمارسها يومياً ضد العقل». ويوضِّح فكرته قائلاً: «هذا المعتقل العمومي أتى على حساب المسرح والسينما، إذ تذهب الميزانيات المخصصة لهما إلى مهرجانات خاسرة، لا تترك أثراً يُذكر».
يعتبر فايز قزق أنّ المعهد العالي للفنون المسرحية هو ملاذه الأخير، وقلعته الحصينة في مواجهة الهباء. «لكن هذه القلعة بدأت بالتصدّع، وأخشى أن ندخل نفقاً مظلماً آخر، ويفسد هواء المعهد». «النفق» عنوان العرض المؤجل الذي يعمل عليه مخرجنا منذ سنتين، من دون أن يتمكن من إنجازه على الخشبة. حين نسأله عن السبب، يقول منفعلاً: «الإجابة في أدراج مديرية المسرح القومي... والحجة الجديدة لديهم: لا ميزانيّة».
ينطوي غضب صاحب «وعكة عابرة» على حماسة لإعادة الألق إلى خشبة المسرح. يريد «تخفيف حجم الكارثة والخراب والفساد... المسرح ليس مكاناً للدبكة والزعبرة، كما هو حاصل اليوم».
حين نستعيد محطات أساسية في تجربة هذا الممثل الاستثنائي، نكتشف رصيداً مسرحياً ضخماً
(48 عملاً مسرحياً)، كان آخرها «ريتشارد الثالث» لسليمان البسام الذي يقترح محاولة لاستثمار الإرث الشكسبيري، وتطويعه عربياً، لفهم آليات ظهور الديكتاتور العربي. يقول فايز قزق مختتماً: «لنفتش في آلية صناعة الديكتاتور (الثقافي)، فهو الوجه الآخر لتخلّفنا وانحطاطنا».
خليل صويلح
5 تواريخ
1959.. الولادة في دمشق.
1977.. الانتساب إلى «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق، وكان في عداد «الدفعة الأولى» لهذه المؤسسة العريقة.
1988.. بعثة إلى لندن للتدرّب على تقنيّات إعداد الممثل.
2006.. جائزة أفضل ممثل عن عرض «حمّام بغدادي» في «مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي»، مناصفةً مع زميله في العرض نضال سيجري.
2009.. «ريتشارد الثالث» (إخراج الكويتي سليمان البسام) في نيويورك.
Comment