فارس الحلو: غيلان الدمشقي يعتني بـ«بستانه»
قبل سنوات أطلق «الملتقى الأول للنحت» في بلدته مشتى الحلو، وكانت أولى خطواته خارج التمثيل. الفنان السوري الذي يرى المثقف جزءاً حيوياً وفعالاً في مجتمعه، يعوّل على «جمال الحب، وقوة الإرادة» لإحداث التغيير
سنبحث طويلاً عن فارس الحلو، قبل أن نلتقيه أخيراً في أحد بساتين أوتوستراد برزة، عند أطراف دمشق. كان علينا أن نتوغل في طرق ترابية متعرجة وسط حظائر للأبقار، وحقول بقوليات، ومشاتل ورد، وبيوت طينية مهدّمة لنهتدي إلى المكان. لم تكن هذه الخرائب موقعاً لتصوير أحد المسلسلات التلفزيونية، كما سيتبادر للذهن، بل كانت مشروعاً لإقامة «ورشة البستان للثقافة والفنون». الورشة التي أسسها فارس بجهود فردية قبل ثلاث سنوات، بدت للوهلة الأولى فكرةً جنونية، وواحدة من تهويمات هذا الممثّل القلق الذي لا يركن إلى ضفة. كانت أولى خطواته خارج عمله في التمثيل، إطلاق «الملتقى الأول للنحت» في بلدته مشتى الحلو. لم تلقَ الفكرة تشجيعاً من الجهات الحكومية أو الأهلية، لكنه واجه الصعاب بمساعدة نحّاتين أصدقاء تحمسوا للمشروع. وإذا بشوارع البلدة الجبلية وساحاتها تستيقظ بعد أشهر، على مشهد آخر: تماثيل من الرخام تزيّن الأماكن المقفرة بأشكال واقعية لم يألفها النحت السوري منذ أزمنة طويلة.
نجاح التجربة شجّعه على تكرارها هذه المرّة بمشاركة نحّاتين من العالم، تحت عنوان «جمال الحب». يقول فارس الحلو إنّه اختار هذا العنوان للملتقى على أمل تطوير الذائقة الجمالية بمعناها العميق، إضافة إلى بناء علاقة رمزية مع المكان. ويقول إن انخراطه في هذا المشروع، لم يكن على حساب عمله في التمثيل «على العكس تماماً. صرت أتعامل مع الشخصيات التي أؤديها، بنضج أكبر»، ويضيف متحمساً: «أثناء مراقبتي لعمل النحّاتين على الحجارة الصمّاء، وكيفية تشكيلها جمالياً، بأكبر قدر من الجهد العضلي والعاطفي، أدركت كم تحتاج الشخصية في السينما أو التلفزيون إلى قراءات متعددة لاكتشاف البوصلة الصحيحة التي تضخ الحياة في أوصالها. هذه البوصلة هي الحب».
ويرى أن انهماكه بتأسيس «ورشة البستان» هو جزء من ممارسته للمواطنة، «فالعمل الثقافي الميداني، هو المنقذ الوحيد لكل أزماتنا التي نعيشها»، ويلفت إلى مسألة جوهرية تتعلق بمعنى العمل الثقافي الأهلي «ثرثرات المقاهي والسجالات الشفوية والصراخ والبيانات وحملات التواقيع، لا تصنع ثقافة صميمية. ينبغي أن نكون جزءاً حيوياً وفعالاً في الحراك الاجتماعي والثقافي، وأرجو أن تسامحني النخبة على شططي وخروجي من الأنفاق المظلمة للحكي المتعالي والتنظير». ويحلم فارس بأن يتحوّل «الهنغار» الذي كان حظيرةً للأبقار، إلى فضاء ثقافي لفعاليات إبداعية مغايرة، وخصوصاً أنّ المكان قريب من مركز المدينة: «أفكر بأن نقيم أسبوعاً سينمائياً في الهواء الطلق، وأن نبني مكتبة للإعارة المجانية، وإقامة ورشات جديدة للنحت والرسم».
في الصيف الماضي، تمكّن فارس من جمع تشكيليين عرب وأجانب في باحة المتحف الوطني في دمشق، لرسم قصائد اختارها هؤلاء الفنانون لشعراء من بلادهم، في حوار بين الريشة والكلمة. وإذا بقصائد نزار قباني وسعدي يوسف وأدونيس ونزيه أبو عفش وبابلو نيرودا في مهب اللون والخط... وكانت الحصيلة معرضاً بعنوان «قصائد الفن التشكيلي»، وهي أول تجربة من نوعها في سوريا. «هذه اللوحات ستكون نواةً لمتحف قصيدة ولوحة، وآمل أن تتكرر التجربة مرة أخرى، على نحو أوسع».
ويعترف فارس الحلو بأن العمل الطوعي من أصعب أنواع العمل، ويحتاج إلى تأصيل، نظراً إلى «غياب ثقافة التطوع في حياتنا. في بادئ الأمر اقتنع عدد كبير من الأصدقاء في الإسهام طوعاً في الورشة، لكن بعضهم انسحب عند أول منعطف»، أما إسهام الجهات الرسمية في دعم المشاريع الثقافية الأهلية، فيُثير حسرة وزفرة طويلة «المؤسسات الحكومية مكبَّلة بقوانين بالية، لذلك يصعب الاعتماد على دعمها. يكفي ألا تعرقل عملنا ومشاريعنا بفرمانات كيدية». ويتذكّر حادثة ذات دلالة، قائلاً: «في أحد أيام الورشة في باحة المتحف الوطني فوجئت باختفاء لوحة من لوحات الملتقى، كانت تستند إلى جانب تمثال عارٍ من مكتشفات الفن التدمري، عند مدخل المتحف، وتبيّن أن إحدى موظفات المتحف قد أبعدت اللوحة من مكانها ووضعتها في زاوية مهملة، بعدما أدارت وجهها إلى الخلف. كانت اللوحة للفنان العراقي جبر علوان، وقد وجدتها الموظفة لوحةً فاضحة، فتصرفت على هواها، وحين أخبرتُ وزارة الثقافة بتفاصيل الحادثة، متوقعاً إعادة اللوحة إلى مكانها، صُدمت بالإجابة: ينبغي مراعاة الذوق العام».
ويضيف شارحاً: «تصوّر الفرق بين عقلية أنتجت تمثالاً عارياً يعود تاريخه إلى قرون، وعقلية تنتسب إلى القرن الحادي والعشرين تدعو إلى التحريم والمنع». وينبه إلى أن مبادرات «ورشة البستان» شجّعت جهات أخرى حكومية وأهلية على إقامة ملتقيات للنحت في معظم المدن السورية «هذا الاهتمام يعني ببساطة أن ورشة البستان أنجزت فعلاً تحريضياً لدى آخرين في صناعة الجمال».
اهتمام فارس بمشاريعه الثقافية، لم يبعده عن الشاشة. في غمرة انهماكه في التحضير لملتقى النحت الثاني، وصله خبر فوزه بجائزة أفضل ممثل في «مهرجان فالنسيا السينمائي الدولي» عن دوره في فيلم «علاقات عامة» للمخرج سمير ذكرى. كذلك شارك هذا الموسم بمسلسلين، الأول هو «الحصرم الشامي» في جزئه الثالث، والثاني «آخر أيام الحب» مع المخرج وائل رمضان. أما إطلالته السينمائية الأولى فكانت في فيلم «الليل» للمخرج محمد ملص (1992)، الفيلم الذي استمر تصويره أربعة أعوام، حقق حضوراً لافتاً لممثلنا، فكان قاسماً مشتركاً لمعظم الأفلام السورية.
يعترف فارس الحلو بأن الدراما التلفزيونية الجيدة شحيحة، لذلك فهو يعتذر عن أدوارٍ كثيرة، لا يجدها ملائمة له، أو أنها لا تضيف شيئاً إلى تجربته، وقد يتورط بدورٍ ثانوي في مسلسل طويل، بعد أن يضيف إليه تفاصيل جديدة، تضعه في قلب الحدث، لإيمانه بأن أدوار البطولة المطلقة وحدها، لا تصنع ممثلاً.
نغادر المكان، ونترك فارس الحلو غارقاً في أحلامه بأن تصير هذه المنطقة المهملة مركزاً ثقافياً مفتوحاً لمشاريع فنية وورشات عمل إبداعية، وأمسيات غنائية. نتساءل بسخرية تفرضها الظروف الراهنة لأحوال الثقافة السورية: هل تتحول هذه الساحة الفارغة حقاً إلى منصة تضجّ بالحوار الخلّاق والإبداع المختلف، بدلاً من خوار الأبقار وحقول البرسيم؟ يبتسم فارس ويقول متحدّياً: «ثق بجمال الحب، وقوة الإرادة».
خليل صويلح
قبل سنوات أطلق «الملتقى الأول للنحت» في بلدته مشتى الحلو، وكانت أولى خطواته خارج التمثيل. الفنان السوري الذي يرى المثقف جزءاً حيوياً وفعالاً في مجتمعه، يعوّل على «جمال الحب، وقوة الإرادة» لإحداث التغيير
سنبحث طويلاً عن فارس الحلو، قبل أن نلتقيه أخيراً في أحد بساتين أوتوستراد برزة، عند أطراف دمشق. كان علينا أن نتوغل في طرق ترابية متعرجة وسط حظائر للأبقار، وحقول بقوليات، ومشاتل ورد، وبيوت طينية مهدّمة لنهتدي إلى المكان. لم تكن هذه الخرائب موقعاً لتصوير أحد المسلسلات التلفزيونية، كما سيتبادر للذهن، بل كانت مشروعاً لإقامة «ورشة البستان للثقافة والفنون». الورشة التي أسسها فارس بجهود فردية قبل ثلاث سنوات، بدت للوهلة الأولى فكرةً جنونية، وواحدة من تهويمات هذا الممثّل القلق الذي لا يركن إلى ضفة. كانت أولى خطواته خارج عمله في التمثيل، إطلاق «الملتقى الأول للنحت» في بلدته مشتى الحلو. لم تلقَ الفكرة تشجيعاً من الجهات الحكومية أو الأهلية، لكنه واجه الصعاب بمساعدة نحّاتين أصدقاء تحمسوا للمشروع. وإذا بشوارع البلدة الجبلية وساحاتها تستيقظ بعد أشهر، على مشهد آخر: تماثيل من الرخام تزيّن الأماكن المقفرة بأشكال واقعية لم يألفها النحت السوري منذ أزمنة طويلة.
نجاح التجربة شجّعه على تكرارها هذه المرّة بمشاركة نحّاتين من العالم، تحت عنوان «جمال الحب». يقول فارس الحلو إنّه اختار هذا العنوان للملتقى على أمل تطوير الذائقة الجمالية بمعناها العميق، إضافة إلى بناء علاقة رمزية مع المكان. ويقول إن انخراطه في هذا المشروع، لم يكن على حساب عمله في التمثيل «على العكس تماماً. صرت أتعامل مع الشخصيات التي أؤديها، بنضج أكبر»، ويضيف متحمساً: «أثناء مراقبتي لعمل النحّاتين على الحجارة الصمّاء، وكيفية تشكيلها جمالياً، بأكبر قدر من الجهد العضلي والعاطفي، أدركت كم تحتاج الشخصية في السينما أو التلفزيون إلى قراءات متعددة لاكتشاف البوصلة الصحيحة التي تضخ الحياة في أوصالها. هذه البوصلة هي الحب».
ويرى أن انهماكه بتأسيس «ورشة البستان» هو جزء من ممارسته للمواطنة، «فالعمل الثقافي الميداني، هو المنقذ الوحيد لكل أزماتنا التي نعيشها»، ويلفت إلى مسألة جوهرية تتعلق بمعنى العمل الثقافي الأهلي «ثرثرات المقاهي والسجالات الشفوية والصراخ والبيانات وحملات التواقيع، لا تصنع ثقافة صميمية. ينبغي أن نكون جزءاً حيوياً وفعالاً في الحراك الاجتماعي والثقافي، وأرجو أن تسامحني النخبة على شططي وخروجي من الأنفاق المظلمة للحكي المتعالي والتنظير». ويحلم فارس بأن يتحوّل «الهنغار» الذي كان حظيرةً للأبقار، إلى فضاء ثقافي لفعاليات إبداعية مغايرة، وخصوصاً أنّ المكان قريب من مركز المدينة: «أفكر بأن نقيم أسبوعاً سينمائياً في الهواء الطلق، وأن نبني مكتبة للإعارة المجانية، وإقامة ورشات جديدة للنحت والرسم».
في الصيف الماضي، تمكّن فارس من جمع تشكيليين عرب وأجانب في باحة المتحف الوطني في دمشق، لرسم قصائد اختارها هؤلاء الفنانون لشعراء من بلادهم، في حوار بين الريشة والكلمة. وإذا بقصائد نزار قباني وسعدي يوسف وأدونيس ونزيه أبو عفش وبابلو نيرودا في مهب اللون والخط... وكانت الحصيلة معرضاً بعنوان «قصائد الفن التشكيلي»، وهي أول تجربة من نوعها في سوريا. «هذه اللوحات ستكون نواةً لمتحف قصيدة ولوحة، وآمل أن تتكرر التجربة مرة أخرى، على نحو أوسع».
ويعترف فارس الحلو بأن العمل الطوعي من أصعب أنواع العمل، ويحتاج إلى تأصيل، نظراً إلى «غياب ثقافة التطوع في حياتنا. في بادئ الأمر اقتنع عدد كبير من الأصدقاء في الإسهام طوعاً في الورشة، لكن بعضهم انسحب عند أول منعطف»، أما إسهام الجهات الرسمية في دعم المشاريع الثقافية الأهلية، فيُثير حسرة وزفرة طويلة «المؤسسات الحكومية مكبَّلة بقوانين بالية، لذلك يصعب الاعتماد على دعمها. يكفي ألا تعرقل عملنا ومشاريعنا بفرمانات كيدية». ويتذكّر حادثة ذات دلالة، قائلاً: «في أحد أيام الورشة في باحة المتحف الوطني فوجئت باختفاء لوحة من لوحات الملتقى، كانت تستند إلى جانب تمثال عارٍ من مكتشفات الفن التدمري، عند مدخل المتحف، وتبيّن أن إحدى موظفات المتحف قد أبعدت اللوحة من مكانها ووضعتها في زاوية مهملة، بعدما أدارت وجهها إلى الخلف. كانت اللوحة للفنان العراقي جبر علوان، وقد وجدتها الموظفة لوحةً فاضحة، فتصرفت على هواها، وحين أخبرتُ وزارة الثقافة بتفاصيل الحادثة، متوقعاً إعادة اللوحة إلى مكانها، صُدمت بالإجابة: ينبغي مراعاة الذوق العام».
ويضيف شارحاً: «تصوّر الفرق بين عقلية أنتجت تمثالاً عارياً يعود تاريخه إلى قرون، وعقلية تنتسب إلى القرن الحادي والعشرين تدعو إلى التحريم والمنع». وينبه إلى أن مبادرات «ورشة البستان» شجّعت جهات أخرى حكومية وأهلية على إقامة ملتقيات للنحت في معظم المدن السورية «هذا الاهتمام يعني ببساطة أن ورشة البستان أنجزت فعلاً تحريضياً لدى آخرين في صناعة الجمال».
اهتمام فارس بمشاريعه الثقافية، لم يبعده عن الشاشة. في غمرة انهماكه في التحضير لملتقى النحت الثاني، وصله خبر فوزه بجائزة أفضل ممثل في «مهرجان فالنسيا السينمائي الدولي» عن دوره في فيلم «علاقات عامة» للمخرج سمير ذكرى. كذلك شارك هذا الموسم بمسلسلين، الأول هو «الحصرم الشامي» في جزئه الثالث، والثاني «آخر أيام الحب» مع المخرج وائل رمضان. أما إطلالته السينمائية الأولى فكانت في فيلم «الليل» للمخرج محمد ملص (1992)، الفيلم الذي استمر تصويره أربعة أعوام، حقق حضوراً لافتاً لممثلنا، فكان قاسماً مشتركاً لمعظم الأفلام السورية.
يعترف فارس الحلو بأن الدراما التلفزيونية الجيدة شحيحة، لذلك فهو يعتذر عن أدوارٍ كثيرة، لا يجدها ملائمة له، أو أنها لا تضيف شيئاً إلى تجربته، وقد يتورط بدورٍ ثانوي في مسلسل طويل، بعد أن يضيف إليه تفاصيل جديدة، تضعه في قلب الحدث، لإيمانه بأن أدوار البطولة المطلقة وحدها، لا تصنع ممثلاً.
نغادر المكان، ونترك فارس الحلو غارقاً في أحلامه بأن تصير هذه المنطقة المهملة مركزاً ثقافياً مفتوحاً لمشاريع فنية وورشات عمل إبداعية، وأمسيات غنائية. نتساءل بسخرية تفرضها الظروف الراهنة لأحوال الثقافة السورية: هل تتحول هذه الساحة الفارغة حقاً إلى منصة تضجّ بالحوار الخلّاق والإبداع المختلف، بدلاً من خوار الأبقار وحقول البرسيم؟ يبتسم فارس ويقول متحدّياً: «ثق بجمال الحب، وقوة الإرادة».
خليل صويلح
5 تواريخ
1961
الولادة في مشتى الحلو (سوريا)
1981
انتسب إلى المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق
2006
تأسيس «ورشة البستان للثقافة والفنون» وإطلاق «ملتقى النحت الأول»
2008
بطولة فيلم «التجلي الأخير لغيلان الدمشقي» للمخرج هيثم حقي، وجائزة أفضل ممثل في «مهرجان فالنسيا الدولي» (إسبانيا) عن دوره في فيلم «علاقات عامة» للمخرج سمير ذكرى
2009
مسلسلا «الحصرم الشامي» و«آخر أيام الحب»
1961
الولادة في مشتى الحلو (سوريا)
1981
انتسب إلى المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق
2006
تأسيس «ورشة البستان للثقافة والفنون» وإطلاق «ملتقى النحت الأول»
2008
بطولة فيلم «التجلي الأخير لغيلان الدمشقي» للمخرج هيثم حقي، وجائزة أفضل ممثل في «مهرجان فالنسيا الدولي» (إسبانيا) عن دوره في فيلم «علاقات عامة» للمخرج سمير ذكرى
2009
مسلسلا «الحصرم الشامي» و«آخر أيام الحب»
Comment