سلامة الإنجيل من الناحية الدينية


1 - وجود رموز ونبوَّات في العهد القديم تشير إلى الكثير مما جاء في الإنجيل:
أوحى الله بالعهد القديم إلى موسى النبي وغيره من أنبياء إسرائيل، ويتمسك به اليهود الذين لا يؤمنون بالمسيحية لغاية الآن. والعهد القديم مليء بالرموز والنبوات عن المسيح، وولادته العذراوية، واسم الأسرة التي يولد منها، والبلدة التي يولد فيها. وتدل تلك النبوات أيضاً على أعماله وصفاته، وموته كفارةً عن البشر وقيامته بعد ذلك من بين الأموات، وغير ذلك من الأمور الخاصة به. وبمضاهاة هذه النبوات وتطبيق تلك الرموز على ما ورد في الإنجيل عن المسيح، نرى أن كلاً منها ينطبق عليه كل الانطباق.
فمن جهة شخصيته قارن مثلاً إشعياء 9: 6 مع لوقا 1: 32 و33. ومن جهة ولادته العذراوية قارن إشعياء 7: 14 مع لوقا 1: 31. ومن جهة الأسرة التي يولد منها قارن ميخا 5: 2 مع متى 1: 2 و3 و2: 5 و6. ومن جهة أعماله وتصرفاته قارن إشعياء 42: 1-9 مع متى 12: 14-21. ومن جهة موته كفارةً قارن إشعياء 53 مع يوحنا 10: 11. ومن جهة قيامته من بين الأموات قارن مزمور 16: 10 مع متى 28: 6 - الأمر الذي يدل على عدم حدوث أي تحريف في الإنجيل.
وقد قام عالم رياضيات أمريكي اسمه بيتر ستونر بحساب نسبة تحقيق 48 نبوة بطريق الصدفة، فوجد أن لها فرصة واحدة، من بين عدد هو واحد أمامه 181 صفراً من الفرص. فمن المستحيل أن يكون تحقيق تلك النبوات بطريق الصدفة!

2 - تحريض الوحي على التمسُّك الشديد بكل آياته، وإنذاره لمن يزيد عليها أو يحذف منها:
أمر الله من جهة آياته: اُرْبُطْهَا عَلَى قَلْبِكَ دَائِماً. قَلِّدْ بِهَا عُنُقَكَ. إِذَا ذَهَبْتَ تَهْدِيكَ. إِذَا نِمْتَ تَحْرُسُكَ، وَإِذَا ا سْتَيْقَظْتَ فَهِيَ تُحَدِّثُكَ (أمثال 6: 21 و22) وأمر أيضاً: لْتَكُنْ,,, عَلَى قَلْبِكَ، وَقُصَّهَا عَلَى أَوْلَادِكَ، وَتَكَلَّمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ وَحِينَ تَمْشِي فِي ا لطَّرِيقِ وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ، وَا رْبُطْهَا عَلَامَةً عَلَى يَدِكَ، وَلْتَكُنْ عَصَائِبَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ، 9éوَا كْتُبْهَا عَلَى قَوَائِمِ أَبْوَابِ بَيْتِكَ وَعَلَى أَبْوَابِكَ (تثنية 6: 6-9). وأيضاً: لا تمِلْ عنها يميناً أو شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفّظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه (يشوع 1: 7 و8).
كما أمرهم: ولا تزيدوا على الكلام... ولا تُنقصوا منه، لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها (تثنية 4: 2). و·كُلُّ ا لْكَلَامِ ا لَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ ا حْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لَا تَزِدْ عَلَيْهِ وَلَا تُنَقِّصْ مِنْهُ (تثنية 12: 32). وحذَّرهم: إن كان أحد يزيد على هذا (أي كتاب النبوَّة) يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة، يحذف الله نصيبه من سفر الحياة (رؤيا 22: 18 و19). فلا يمكن لمسيحي أن يحذف كلمة من الكتاب المقدس أو يضيف أخرى إليه.

3 - ترحيب المسيحيين بالاضطهاد في سبيل التمسُّك بما جاء في الإنجيل:
أ - لو أن المسيحيين الأوائل حرَّفوا آيةً من الآيات الخاصة بشخصية المسيح أو موته الكفاري نيابة عن البشر (اللذَيْن هما أهم موضوعات الكتاب المقدس) لَمَا كانوا يعرِّضون أنفسهم للاضطهادات القاسية التي كانت تحلّ بهم منذ القرون الأولى، من اليهود والوثنيين على السواء، بسبب هذين الموضوعين. لأنه ليس هناك عاقل يعرّض نفسه للاضطهاد بسبب أمرٍ لا نصيب له من الصواب، زوَّره واختلقه هو بنفسه!
وقد أشار الأستاذ عباس محمود العقاد إلى هذه الحقيقة فقال: ومن بدع (أهل) القرن العشرين سهولة الاتهام كلما نظروا في تاريخ الأقدمين فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها وصِفاتٍ لا يشاهدونها ولا يعقلونها. ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان أو أعاجيب النقل. ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الاتهام، لأنه أصعب تصديقاً من القول بأن أولئك الدعاة أبرياء من تعمُّد الكذب والاختلاق. فشتّان عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقاً لعقيدته، وعمل المحتال الذي يكذب، ويعلم أنه يكذب، وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب. مثل هذا لا يُقْدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها. وهيهات أن يوجد بين الكذَبَة العامدين من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون. فإذا كان المؤلف الصادق مَن يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين أن الرسل لم يكذبوا في ما رووه، وفي ما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوه ممن رآه (عبقرية المسيح ص 118 و189).

4 - بُطلان الدعوى بوجود اختلاف بين كتبة الإنجيل:
أ إن ما يقال عنه اختلاف بين كَتَبَة الإنجيل الذي يتّخذه البعض دليلاً على حدوث تحريف فيه (كما يدَّعون) هو اختلاف لفظي فحسب، وأسبابه (1) إن كلاً من كتبة الإنجيل كتب على انفراد (2) وإنه كتب إلى جماعة تختلف عن الجماعات التي كتب إليها الآخرون، من جهة الثقافة والعادات. (3) كما أن كلاً منهم كتب إلى جماعته عن ناحية من شخصية المسيح، رأى بإرشاد الله ضرورة توجيه أنظارهم إليها بصفة خاصة. فهذا الاختلاف ليس اختلاف التعارض، بل تنوُّع التوافق والانسجام.
ب فإذا أضفنا إلى ذلك (1) أن وجود أربعة كتب لأشخاصٍ مختلفين (من جهة السن والثقاقة والطباع والجنسية، كما ذكرنا في الفصل الأول) عن سيرة المسيح، أفضل جداً لدى الباحثين عن الحقيقة مما لو كان هناك كتاب واحد عن سيرته. (2) أن اتفاق الشهود في حادثةٍ ما، من جهة كل لفظٍ فيها، مدعاةٌ للطعن في شهادتهم بدعوى التواطؤ، بينما اختلافهم في اللفظ دون المعنى (مع مراعاة الظروف الثلاثة الخاصة بكَتَبة الإنجيل) دليل على صدق شهاداتهم.
ج كان كتبة الإنجيل على درجةٍ سامية من القداسة والأمانة وإنكار الذات، حتى استطاعوا التأثير على كثيرين من اليهود والوثنيين، فصرفوهم عن أهوائهم وشهواتهم المتعددة، وقادوهم إلى حياة الطاعة للّه والتوافق معه في صفاته الأدبية السامية. وهذا يبرهن لنا أنه لا مجال للقول بحدوث اختلاف في الإنجيل، الأمر الذي يبطل القول بعدم جواز الاعتماد عليه.
ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد: إذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح، فليس في هذا الاختلاط بدع، ولا دليل قاطع عن الإنكار، لأن الأناجيل تضمَّنت أقوالاً في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، لأن مواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها والمقارنة بينها وبين آثارها. كما أن مواضع الاتفاق بينها تدل على أنها رسالة واحدة من وحيٍ واحد (عبقرية المسيح ص 88-90 و·الله ص 149 و154 و194).

5 - بطلان الدعوى بحدوث تحريف في التوراة:
أ - كانت التوراة موجودة في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح بمئات السنين. فكانت هناك نسخ منها في الهيكل والمجامع والمدارس الدينية. وكان الكهنة واللاويون يقدسون هذه النسخ كل التقديس ويحافظون عليها بكل دقة وعناية (تثنية 31: 9 و2ملوك 22: 8). كما كانت هناك أيضاً نسخ منها في أيدي القضاة والملوك وأتقياء اليهود والكتبة والفريسيين والناموسيين (تثنية 17: 18). وكان هؤلاء جميعاً يواظبون على قراءتها كل يوم، كما كانوا يعرفون عدد آياتها وكلماتها وحروفها، بل وأيضاً عدد المرات التي تستعمل فيها كل كلمة وكل حرف أيضاً.
ب - فضلاً عن ذلك فإنه لخوفهم الشديد من التعرض لقضاء الله المريع إذا حدث خطأ ما في كتابة التوراة، كانوا لا يعهَدون بنَسْخها إلا لفئة خاصة من رجال الدين الملمِّين بها، وكان هؤلاء يصلّون كثيراً قبل قيامهم بعملهم هذا حتى لا يخطئوا. وإذا وصلوا إلى كتابة اسم الجلالة كانوا يستبدلون القلم الذي يكتبون به بقلمٍ آخر، ثم في خشوع وورع عظيمين يكتبون هذا الاسم الكريم. وعندما يفرغون من كتابة التوراة، كانوا يسلّمونها إلى غيرهم للمراجعة. وكان هؤلاء يراجعونها كلمة كلمة. ولكي لا يكون لديهم شك في دقة المراجعة كانوا يُحْصون عدد كلمات التوراة المكتوبة وعدد حروفها وعدد كل نوع من الحروف أيضاً، ويطابقون كل ذلك على النسخة الأصلية. فإذا وجدوا أخطاء قليلة، كتبوا صوابها. أما إذا وجدوا أخطاء كثيرة، أحرقوا النسخة التي يراجعونها في الحال.
ج - فإذا أضفنا إلى ما تقدَّم أن المسيح وتلاميذه كانوا يقتبسون في أقوالهم الكثير مما ورد في التوراة من نبوات وشرائع، حتى بلغ ما اقتبسوه من هذه وتلك حوالي 200 آية (كما يظهر بكل بيان على صفحات العهد الجديد) اتضح لنا بدليل قاطع أنه لا يمكن أن يكون قد أصاب التوراة تحريف ما.
ونظراً لأن قدامى العلماء كانوا يثقون كل الثقة أن التوراة هي أقوال الله، وأنها لم تتعرض لأي تحريف، كانوا يواظبون على تلاوتها. فمن المأثور عن أبي جلد أنه كان يقرأ القرآن في سبعة أيام والتوراة في ستة، يقرأها نظراً، وكان يومها يقول: تنزل عند ختمها الرحمة (ضحى الإسلام ج1 ص33).
أما ما يظنه بعض المسلمين تحريفاً في آية من آيات التوراة أو الإنجيل، فيرجع في الواقع إلى تفسير علماء المسيحيين لها تفسيراً يختلف عما يراه هؤلاء المسلمون. وقد أشار الإمام الرازي إلى هذه الحقيقة في تفسيره فقال: كيف يمكن التحريف في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب. ولكنهم يحرفونه أي يؤوّلونه على غير تأويله (الرازي في تفسير البقرة 2: 75).
وبما أنه لم يحدث تحريف في التوراة أو الإنجيل حتى قرن 14م (الذي ظهر فيه مفسِّرو القرآن القدامى) فمن البديهي أن لا يكون قد حدث تحريف فيهما بعد ذلك، لأنهما كانا قد انتشرا في بلاد أكثر من التي كانا منتشرين فيها، كما كانا قد تُرجما إلى لغاتٍ أكثر من التي كانا مترجمين إليها. فضلاً عن ذلك فقد أقبل على دراستهما وحفظهما وتفسيرهما أشخاص أكثر جداً من الذين كانوا يفعلون ذلك من قبل، في كل البلاد.
ويسجل لنا ابن كثير في تفسيره للمائدة 5: 43-48 وجود نسخة سليمة من التوراة كانت بين يدي نبي الإسلام، عندما جاء بعض اليهود يسألونه عن عقوبة الزنا، فأخذ الوسادة التي كان يجلس عليها ووضع التوراة فوقها (وكانت باللغة العبرية) ثم أمسك بالتوراة وقال: آمنت بك وبمن أنزلك . وقد جاء الحديث نفسه في سنن أبي داود (مشكاة المصابيح، تحقيق الألباني رقم 4449).