سلامة الإنجيل من الناحية الموضوعية


الذي يقوم بالتحريف عادةً يكون متأثّراً بعقائد وعادات البشر التي يعرفها. ولكن تعاليم الإنجيل خالية من أي أثرٍ لهذه وتلك، وهذا يؤكد لنا أنه لا يمكن أن تكون يد التحريف قد امتدّت إليه. وللإيضاح نتحدث فيما يلي عن العقائد والعادات التي كانت منتشرة بين اليهود، وبين الوثنيين من الرومان واليونان، الذين عاش بينهم المسيحيون الأوائل، ثم نقارنها بعد ذلك بما ورد في الإنجيل من تعاليم.

1 - عقائد وعادات اليهود والوثنيين في القرون الأولى:
أ - عقائد اليهود وعاداتهم: فاليهود مع إيمانهم بكمال الله وقدرته، كانوا يعتقدون أنه هو الذي يرسل الخير والشر معاً إلى الناس، وأنه لا يتصل بالأتقياء منهم مباشرة بل بواسطة ملائكة تحمل عطاياه إليهم، وترفع عبادتهم إليه. وأن العبادة يجب أن تكون في أورشليم وحدها، ولا يقبلها الله إلا إذا اقترنت بالذبائح والطقوس. وأن الاغتسال بالماء ضروري جداً قبل القيام بها، وأن حق الاقتراب إلى الله مقصور على أهل الختان، لأن غير المختون كان يُعتبر نجساً أمام الله. وأن تقاليد الآباء هي في مرتبة الناموس الذي أعطاه الله لموسى النبي، ولذلك يجب احترامها احترام الناموس، حتى إذا كانت متعارضة مع الناموس في بعض الأمور.
كما كانوا يعتقدون أنهم بسبب انتسابهم الجسدي إلى إبرهيم الخليل، فهُم وحدهم شعب الله المختار. وإذا صافحوا إنساناً من جنس آخر أو تعاملوا معه في بيعٍ أو شراء كانوا يغسلون أيديهم وينفضون الغبار الذي علق بثيابهم منه قبل الدخول إلى منازلهم. وأن يوم السبت يوم مقدس يحرمون فيه حتى عمل الخير، كما يحرّمون مجرد قطف السنابل من الحقول لأكلها، ويحرّمون تطلّع امرأة إلى مرآة خشية أن تجد شعرةً بيضاء في رأسها فتنزعها في السبت. كما كانوا يعتقدون أن النساء طبقة حقيرة، ولذلك كان الرجال اليهود يشكرون الله في صلواتهم لأنه لم يخلقهم نساءً. وأن رجال الدين مهما كانت أخلاقهم يستحقون كل إكرام واحترام، ولذلك كانوا يطلقون عليهم الربيين أي السادة .
وبالإضافة إلى ذلك كانوا يحبون الصلاة في الأزقّة والشوارع، وتقديم الصدقات على مرأى من الناس، لينالوا مدح الناس. كما كانوا يعتبرون حتى الأكل بأيدٍ غير مغسولة نجاسة يتجنّبونها تماماً. وتحت هذا الستار الديني، أو بالحري الرياء الديني، كانوا يستبيحون كل الشرور والآثام. كما كانوا يبيحون تعدّد الزوجات، وكذلك الطلاق لأتفه الأسباب. فقد كان عدم إتقان الزوجة لطهي الطعام ولو مرة واحدة، أو تحدُّثها مع رجل في أي موضوع من الموضوعات، سبباً كافياً لطلاقها لأنها لَمْ تَجِدْ نِعْمَةً (تث 24: 1) في عين زوجها ذلك اليوم فقط!
ب - عقائد الوثنيين وعاداتهم: وكان السواد الأعظم منهم يعبدون الكواكب والأوثان والأباطرة والعظماء. أما الفلاسفة الذين سمت مداركهم واهتدوا إلى وجوب وجود خالق عظيم للكون، فقد قال بعضهم إنه الأثير، وقال البعض الآخر إنه موجود لا يتصف بصفة إيجابية ولا تربطه بالعالم رابطة حقيقية. وكانوا يعتقدون أن المادة أزلية وأنها هي السبب في وجود الشر في العالم، وأن الكواكب لها نفوس تحرّكها في أفلاكها. وأن أرواح البشر خُلقت قبل ولادة أجسادهم من أمهاتهم، وأنها تحيا في هذه الأجساد ليس وفقاً لمشيئتها بل وفقاً لأحكام القَدَر. وأنها تتناسخ بعد موت أجسادها في حيوانات تأديباً لها على ما تكون قد ارتكبته من آثام. فكان كثيرون ينكرون البعث والقيامة من الأموات.
وكان اليونان والرومان يعتقدون أنهم وحدهم الحكماء، وأن باقي الناس برابرة أو جهلاء. كما كانوا لا يشفقون على طفلٍ صغير أو شاب في مقتبل العمر أو شيخ كلّل الشيب رأسه، بل كانوا يقتلون الطفل والشيخ إذا كان هزيلاً. ويقتلون الشاب إذا كان وجهه قبيحاً. وبالإضافة إلى ذلك كانوا يطلقون العنان للغريزة الجنسية لينالوا رضى الآلهات لديهم، كما كانوا يزعمون!!

2 - خلو الإنجيل من العادات والعقائد اليهودية والوثنية:
فإذا نظرنا إلى العقائد والعادات السابقة، لا نرى أثراً لها في الإنجيل، كما يتضح مما يلي:
أ - فهو يعلن أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده هو الأزلي، وأنه خالق كل ما عداه، وأن الكواكب تتحرك في أفلاكها حسب النظام الذي وضعه لها، وأن أرواح البشر لم يكن لها وجود قبل أجسادهم، بل أنها تولد معها. وأنها تحيا في العالم ليس بقوة الجبر أو القَدَر، بل بمطلق حريتها وإرادتها. كما أنها لا تنتقل بعد موت أجسادها إلى الحيوانات، بل إلى الهاوية أو إلى الفردوس حسبما يكون إيمانها وعملها.
ب - ويعلن أن الله يتّصف بكل صفات الكمال الإيجابية، وأنه يتّصل بالمؤمنين الحقيقيين اتصالاً مباشراً، وأنه مصدر الخير لهم ولغيرهم من البشر. أما الشر الذي يصيب بعضهم، فهو نتيجة سوء تصرفهم. وأن العبادة تكون للّه وحده، وأنها يمكن أن تكون في أي مكان، لأن الله لا يتحيَّز بحيِّز، ولأنه لا يفضِّل مكاناً على مكان. وأن الطقوس والنظم الدينية مهما كانت جميلة وجذابة في نظر الناس، فهي ليست بذات قيمة أمامه، لأن العبادة التي يرتضيها هي ما كانت بالروح والحق. وأنه لا حاجة لتقديم الذبائح الحيوانية كفارة عن الخطية بعد أن قدَّم المسيح نفسه كفارةً، فوفى كل مطالب عدالة الله وقداسته من جهة المؤمنين الحقيقيين. وأن العبادة إذا كانت فردية، يجب أن تكون في الخفاء، وهكذا يجب أن تكون الصَّدَقَة، حتى تكون كلتاهما للّه دون سواه. والاغتسال الذي يجب أن نقوم به قبل الصلاة، ليس تنظيف بعض أجزاء الجسم بالماء، بل إزالة الأفكار الشريرة من النفس، حتى تتهيأ للاتصال بالله والتمتع به.
ج - ويعلن أن الناس جميعاً سواسية أمام الله، فلا فرق بين أبيض وأسود أمامه. وأن مجرد الانتساب الجسدي إلى نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل لا يعود على أحد من ذريته أو تابعيه بخيرٍ ما، لأن المهم هو الانتساب الروحي للّه والسير في سبيله بالإيمان. وأن رجال الدين مهما كانت مكانتهم في العالم، هم خدَّامٌ للمؤمنين وليسوا رؤساء عليهم. كما أنهم إذا كانوا أشراراً يجب نبذهم والتحوُّل عنهم، لأن مكانتهم لا تتوقف على مراكزهم بل على سلوكهم. وأن الدستور الذي يجب أن يسير عليه رجال الدين وغيرهم من الناس هو كلمة الله دون سواها، لأن تقاليد القدماء، وإن كانت تتضمن بعض الفوائد، غير أنها لا تخلو من الخطأ، لأن واضعيها ليسوا معصومين في التعليم أو السلوك. وأن الختان الذي يطلبه الله ليس هو الختان الجسدي بل الختان الروحي، أو بالحري نزع الخطية من القلب تماماً.
د - ويعلن أن الخطية ليست هي فعل الشر فحسب، بل هي مجرد التفكير فيه (أمثال 24: 9) والتفوُّه به (متى 5: 22). كما أنها هي التقصير في عمل الخير (يعقوب 4: 17) والانصراف الذهني عن الله (مزمور 9: 17).
وتقديس يوم في الأسبوع لا يعني الكفّ فيه عن الأعمال الخيرية، بل بالعكس يُراد به التفرُّغ للقيام بهذه الأعمال، بالإضافة إلى عبادة الله وتمجيده. ولا حرج على المؤمنين في يوم الرب من الأكل والشرب وغيرهما من الأعمال الضرورية، التي لا يمكن تأجيلها إلى يوم آخر. وأن المرأة ليست أقل من الرجل ولا الرجل أعظم من المرأة، بل إنهما واحد أمام الله. وأن الطلاق وتعدُّد الزوجات غير جائزين، لأن الله خلق من البدء امرأةً واحدة لرجلٍ واحد، وجعلها لحماً من لحمه وعظماً من عظامه، ولذلك فلا طلاق بينهما إلا لعلة الزنا.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لم يحدث أي تغيير في الإنجيل، بل إنه باق كما هو، وحي الله الذي يسمو فوق آراء البشر وتصّوُراتهم في كل العصور والبلاد .