سلامة الإنجيل من الناحية العقلية


1 - استحالة حدوث التحريف، ووجود إنجيل واحد للمسيحيين:
لا يمكن أن يكون المؤمنون الحقيقيون قد قاموا بإجراء أي تحريف في الإنجيل، لأن هذا العمل وزر لا يمكن أن يكون قد خطر ببال واحدٍ منهم. ولا يمكن أيضاً أن يكون بعض المؤمنين بالاسم قد قاموا بالتحريف المزعوم في نسخ الإنجيل التي كانت بين أيديهم، لأنهم لو كانوا قد قاموا به، لثار المؤمنون الحقيقيون ضدهم وقضوا عليه. ولو فرضنا جدلاً أن المؤمنين الحقيقيين لم يقضوا على التحريف المزعوم، لكان يوجد الآن إنجيلان مختلفان، الأول هو الخالي من التحريف، والثاني هو المُصاب به. ولكن لا يوجد سوى إنجيل واحد، هو المستعمل لدى جميع المسيحيين في كل العصور والبلاد. فالقول بحدوث تحريف في الإنجيل لا يتفق مع العقل على الإطلاق.

2 - بقاء الآيات التي تتعارض في ظاهرها مع عظمة المسيح، ووحدانية الله:
هدف التحريف أو التزوير (كما نعلم) هو الحصول على فائدة ما. فلو فرضنا جدلاً أن بعض المسيحيين سوَّلت لهم نفوسهم أن يحرفوا شيئاً من الإنجيل لَحَذفوا ما يأتي:
(أ) الآيات التي تتعارض في ظاهرها مع عظمة المسيح مثل الآيات الخاصة بولادته في مذود للغنم (لوقا 2: 7) وهروبه إلى أرض مصر، واحتقار بعض الناس له واتهامهم إياه بأنه مختل وبه شيطان (متى 13: 55 ومرقس 3: 21 و22 ويوحنا 7: 20). وكذلك الآيات الخاصة باعتراض أحد تلاميذه عليه وإنكار علاقته به، وخيانة يهوذا وتسليمه المسيح لليهود ليصلبوه طمعاً في دريهمات معدودات، وهروب باقي التلاميذ وتركهم إياه وحيداً (الواردة في متى 26: 15 و56 و74)، وغير ذلك من الآيات التي كان الوثنيون يعيِّرون المسيحيين بها.
ومن ناحية أخرى لكانوا قد أسندوا إلى المسيح عمل المعجزات منذ طفولته، وقبول السجود من الحيوانات والأشجار، والتصفيق من الجبال والتلال. ولوصفوه أيضاً بملاحة الوجه وطول القامة واعتدال القوام وقوة العضلات وغزارة الشعر. ولأطنبوا كذلك في ذكر صفاته وحسَبه ونسَبه وغيرها من الأمور التي كان يتفاخر الناس بها قديماً.
(ب) الآيات الخاصة بأن الله الواحد الأحد هو الآب والابن والروح القدس، والخاصة بأن المسيح هو ابن الله. أو لفسَّروها تفسيراً يضع حداً لاعتراضات الوثنيين واليهود. ولم يكن هذا بالأمر العسير عليهم، كما يتضح مما يلي:
(1) لا يُراد بالآب والابن والروح القدس المعاني المادية بل الروحية، كما لا يُراد بهم أقانيم منفصل أحدهم عن الآخر، بل يراد بهم ذات واحدة هي ذات الله، وذلك من جهة كونه ذا علاقات بينه وبين ذاته أزلاً، وبينه وبيننا في الزمان. وقد بحث العلماء عقيدتنا هذه، فقال ابن رشد في كتاب تهافت التهافت ص 32 : إن النصارى لا يرون أن الأقانيم زائدة عن الذات، وإنما هي عندهم كثيرة بالقوة لا بالفعل. ولذلك يقولون إن الله ثلاثة وواحد. أي واحد بالفعل وثلاثة بالقوة . وقال غيره في كتاب العقائد النسفية ص 162 : لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنوية، دون النصارى . وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتاب الله - ص 171 : الأقانيم (عند المسيحيين) جوهر واحد، و·الكلمة و·الآب وجود واحد. وحين تقول الآب لا تدل على ذات منفصلة عن الابن لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية . والأقنوم كلمة سريانية يُراد بها من يتميّز عن غيره دون أن يكون له ظل. وفي الوقت نفسه يتحد مع آخر في الذاتية والجوهر بكل خصائصهما ومميزاتهما. ولذلك لا تُطلق هذه الكلمة إلا على كل من الآب والابن والروح القدس لأنهم ذات الله الواحد.
ولإزالة كل لبس من جهة اعتقادنا، نحن المسيحيين، في ذات الله، نقول: إن الله يتصف بصفات إيجابية مثل المحبة والعلم والإرادة والبصر والسمع والكلام. وهذه الصفات لا يمكن أنها كانت عاطلة أزلاً، ثم صارت عاملة عندما خلق الكائنات، بل لا بد أنها كانت عاملة أزلاً قبل خلق هذه الكائنات. وإلا كان الله قد تغيّر وتطوّر، فأخذ يحب بعد أن كان لا يحب، ويريد بعد أن كان لا يريد، وهلم جراً. وهو لا يتغير ولا يتطور. وعمل صفات الله أزلاً يتطلب إما وجود أزليين معه، أو وجود تركيب في ذاته. وبما أنه ليس هناك أزلي سواه، وفي الوقت نفسه ليس فيه تركيب، إذن لا بد أنه كان يمارس صفاته بينه وبين ذاته نفسها.
وإذا كان الأمر كذلك، لا تكون وحدانيته وحدانية مطلقة، بل وحدانية شاملة أو جامعة. وقد عرف هذه الحقيقة معظم علماء الكلام. فمثلاً قال البيجوري: والحاصل أن الوحدانية الشاملة هي وحدانية الصفات ووحدانية الأفعال . وقال غيره: وحيث أن صفاته تعالى حقيقية، لم يكن بسيطاً من كل وجه . وقال صاحب التحقيق: أرى الكثرة في الواحد وإن اختلفت حقائقها وكثرت، فإنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين . وقال الشيخ محيي الدين بن عربي: أمرنا بالاستفادة بالاسم الجامع الذي هو أحد أسماء الله الحسنى المعروفة. وقال أيضاً: الله عين ما ظهر وعين ما بطن. فالأمر حيرة في حيرة. واحد في كثرة وكثرة مردُّها إلى واحد . وقال غيره: من غلبت عليه الوحدة من كل وجه كان على خطر (مشكلة الألوهية، وفصوص الحكم، وحاشية الأمير على الجوهرة، وتحفة المريد على جوهرة التوحيد). وقد بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل في كتب الله الثلاثة، فليرجع إليها القارئ إذا أراد.
(2) أما من جهة الاصطلاح ابن الله ، فلا يُراد به المعنى الحرفي كما ذكرنا، لأن الله لم يلد ولم يولد، إذ أنه روح محض (يوحنا 4: 24)، بل يراد به المعنى الروحي. والمعنى الروحي للابن بالنسبة إلى الله، هو المعلِن لذاته تعالى .
ولذلك يُدعى ابن الله كلمة الله لأن كلمة الكائن هي التي تعلن ذاته. وقد أشار المسيح إلى هذه الحقيقة فقال عن نفسه: اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ا لْآبَ (يوحنا 14: 9). فإذا كان من اللازم لكمال الله أن يكون قائماً بكلمته أزلاً (لأنه لولا ذلك، لكان قد تعرَّض للتغيُّر، إذ يكون بدون كلمة أصلاً، ثم اتَّخذ له كلمة) أدركنا أن المسيح من الناحية الجوهرية هو الذي يعلن الله لذاته منذ الأزل الذي لا بدء له. ومن الناحية الجسدية التي اتخذها من العذراء، هو الذي أعلن الله لنا، عندما كان له المجد على الأرض بيننا.
وقد أدرك هذه الحقيقة بعض العلماء، فقال الشيخ أبو الفضل القرشي: يمكن أن يكون المراد أن اللاهوت ظهر في المسيح، وهذا لا يستلزم الكفر، وأنه لا إله إلا الله (حاشيته على تفسير البيضاوي ج 3 ص 142). وقال الأستاذ عباس محمود العقاد: جاء السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإِلهية (الله - ص 159). والصورة الجميلة للذات الإِلهية هي الصورة الكاملة لها. وصورةٌ مثل هذه لا يمكن أن يعلنها إلا الله أو أقنوم من أقانيمه، لأن البشر والملائكة جميعاً كائنات محدودة، وفي الوقت نفسه معرّضة للخطأ، فلا يمكن أن يأتي ملاك أو إنسان بهذه الصورة على الإطلاق. ولذلك لا يكون ابن الله هو المعلِن لله فقط، بل يكون أيضاً هو الله معلَناً لأنه لا يعلن ذات الله إلا الله . وكان هذا الحق معروفاً عند اليهود المعاصرين للمسيح (يوحنا 5: 18) بسبب وجود إشارة عنه في توراتهم (مزمور 2: 7 - 9 وأمثال 30: 4).
كما أن هذا التفسير الذي ذكرناه عن معنى ابن الله ليس أمراً غريباً عنا نحن الناطقين بالضاد، فنحن نقول بنات الفكر بمعنى الفكر معلَناً وجلياً.

3 - بقاء الآيات التي تتعارض مع غرائز البشر وميولهم:
ولو فرضنا أيضاً أن بعض المسيحيين حرّفوا شيئاً من الإنجيل، لحذفوا منه الآيات التي تنهى عن الطلاق ومحبة المال، والتي تأمر بمحبة الأعداء والإحسان إليهم والصلاة لأجلهم (مثل متى 5: 31 و43 - 48 و6: 19 - 34) وغير ذلك من الآيات التي تنفِّر معظم البشر من المسيحية. ومن ناحية أخرى، لأضافوا إلى الإنجيل العبارات التي تفتح المجال أمام البشر للقيام بالأعمال التي تميل إليها غرائزهم (مثل الأخذ بالثأر، والزواج بأكثر من واحدة، وجمع المال وتكديسه)، وفي الوقت نفسه تسهّل أمامهم طرق الحصول على غفران الخطايا التي يرتكبونها (وذلك بالصيام لبضعة أيام أو إعطاء شيء من المال للفقراء، أو القيام ببعض الصلوات) والتي تصّور لهم أيضاً متع الحياة الأخرى بصورة تأخذ بمجامع قلوبهم، مثل الأطعمة الشهية والملذات الجسدية وما شاكلها حتى يعتنقوا المسيحية.
لكن بالرجوع إلى الإنجيل يتضح لنا ما يأتي:
أ - إنه ينهى عن مقابلة الشر بالشر (متى 5: 38-42) وذلك حسماً له ومنعاً من انتشاره. وينهى عن الزواج بأكثر من واحدة (متى 19: 4-6) لكبح جماح الشهوات وضمان سلامة الأسرة. وينهى عن تكديس المال (متى 16: 19-21) لإفادة كثيرين منه. ومن الناحية الأخرى يوصي بالسلوك بالقداسة والأمانة حتى نكون كاملين كما أن الله كامل (متى 5: 48).
ب - ويعلن أن الخطية بالفكر أو القول تحرم صاحبها من التوافق مع الله لأنه كامل، ولا يتوافق مع الكامل إلا الكامل. ولذلك فإن عقاب الخطية في أصغر مظاهرها هو الحرمان الأبدي من الله، أو بالحري هو الطرح في جهنم إلى أبد الآبدين (متى 5: 22). كما يعلن أن الأعمال الصالحة لا تستطيع التكفير عن الخطية. لأن هذه الأعمال مهما كثرت هي محدودة في قدرها، وحق الله الذي أُسيء إليه بسببها لا حدّ له. والأشياء المحدودة في قدرها لا تستطيع إيفاء مطالب أمرٍ لا حدّ له. ومن ناحية أخرى بما أنه لو غفر الله خطايانا دون مراعاة لحقوق عدالته، لكانت رحمته قد طغت على عدالته، ومحبته على قداسته. وهذا ما لا يجوز حدوثه في ذات الله، الذي لكماله المطلق لا تطغى فيه صفة على صفة أخرى. فمن البديهي أن يقوم الله بإيفاء مطالب عدالته وقداسته بينه وبين نفسه، أو بالحري أن يتقبل فيها عار خطايانا وقصاصها على نحوٍ ما، قبل أن يغفرها لنا. وهذا هو عين ما فعله في موت المسيح الكفاري على الصليب، فعلى الصليب التقى العدل بالرحمة (مزمور 85: 10).
ج - ويعلن الإنجيل لنا أن الحياة الأخرى لا مجال فيها للأكل أو الشرب أو الزواج (متى 22: 30 ورومية 14: 17) لأن المؤمنين الحقيقيين سيكونون هناك كملائكة الله، لذَّتهم الوحيدة هي التمتع بجلاله وتقديم العبادة اللائقة به بكل محبة وسرور.
مما تقدم يتضح لنا أن الإنجيل خالٍ خلواً تاماً من الوصايا التي تحبِّب معظم الناس في المسيحية. وهو في الوقت نفسه مليء بالوصايا التي تنفِّرهم منها، رضوا بذلك أم لم يرضوا. فلا يُعقل إطلاقاً أن يكون بعض المسيحيين قد سّوَلت لهم نفوسهم أن يحذفوا من الإنجيل شيئاً، أو يضيفوا إليه شيئاً آخر.