سلامة الإنجيل من الناحية التاريخية

كلمة الإنجيل معرَّبة عن الكلمة اليونانية إفانجيليون ومعناها البشارة أو الخبر السار . والسبب في إطلاق هذا الاسم عليه، أنه يعلن للملأ محبة الله المطلقة للخطاة وموت المسيح كفارةً عنهم، حتى لا يهلك كل من يؤمن به منهم إيماناً حقيقياً، بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16).
وقبل الرد على الدعوى بحدوث تحريف في إنجيل المسيحيين، نقول: إنه يمكن لأي إنسان أن يتّهم آخر بما يشاء، لكن إذا لم يستطع إثبات اتهاماته بأدلّة مقنعة تكون باطلة. فكان من الواجب على القائلين بحدوث تحريف في هذا الإنجيل أن يذكروا
(1) الآيات التي أصابها التحريف، وماذا كانت قبل تحريفها.
(2) أسماء الذين قاموا بالتحريف، وفي أي وقت قاموا به، وما هي غايتهم من تصرفهم هذا
(3) كيف استطاع هؤلاء الأشخاص أن يقوموا بالتحريف مع أنه كان يوجد منذ القرن الثاني الميلادي آلاف النسخ من الإنجيل في بلاد متفرقة وبلغات متعددة، الأمر الذي يتعذّر معه إجراء تحريف فيها جميعاً.
(4) وأخيراً أن يذكروا الطريقة التي لجأ إليها الأشخاص المذكورون لإخفاء التحريف المزعوم، حتى لم يستطع اكتشافه إلا المعترضون، وذلك بعد مئات السنين من حدوثه!
وبما أن المعترضين اكتفوا بالاتهام دون ذكر الأدلة التي تثبته، يكون اتهامهم باطلاً. ومع هذا فقد بحث الكاتب هذا الاتهام من نواحٍ متعددة، فاتّضحت له سلامة الإنجيل من أي تحريف، كما يتضح من هذا الكتاب.


1 - لم يعترض معاصرو المسيح ولا خلفاؤهم في القرون الأولى على شيء مما ورد في الإنجيل:
أ - كان الإنجيل قد أخذ في الانتشار شفوياً بعد صعود المسيح إلى السماء بعشرة أيام فحسب، وذلك بين سكان أورشليم الذين عاصروا المسيح وعرفوا كل شيء عنه (أعمال 2 - 7) دون أن ينهض واحدٌ منهم، مهما كان شأنه، لمناقضة شيء مما جاء فيه. وبعد ذلك انتشر الإنجيل في مدةٍ لا تتجاوز ثلاث سنوات في كثير من بلاد الشرق والغرب بلغات سكانها. وكان معظم هؤلاء بسبب انتشار الثقافة اليونانية وقتئذ بينهم، لا يقبلون الأخبار إلا بعد فحصها وتمحيصها من كل الوجوه (إقرأ مثلاً أعمال 17: 10-12 و19: 8-24). وبالرجوع إلى التاريخ لا نرى واحداً من هؤلاء أيضاً قد اتهم المبشرين بالإنجيل بتحريفٍ أو تزوير.
ب - لم يتّهم اليهود والوثنيون، على الرغم من تهكّمهم منذ القرن الأول على عبادة المسيحيين وعقائدهم (لروحانية العبادة المسيحية وسمّو عقيدتها فوق الإدراك البشري) أبداً بأنهم حذفوا شيئاً من إنجيلهم، أو أضافوا إليه شيئاً آخر.
ج - اشتهر الفلاسفة الوثنيون الذين اعتنقوا المسيحية في القرون الأولى بالبحث والمناقشة، ولم يكن لهم رأي واحد من جهة عقائد المسيحية، فانقسموا إلى فرقٍ متعددة لاختلافهم في شرح بعض آيات الإنجيل. وكان كل فريقٍ منهم يناصب الفريق الآخر العداء، ويحاول إسناد شتّى التّهم إليه. ومع ذلك لم يُسند فريق منهم إلى غيره جريمة إجراء تزويرٍ في الإنجيل الذي يُعتمَد عليه في البحث والمناقشة، فاتفاقهم على نصٍّ واحد يؤكد مصداقيته.

2 - نُشر الإنجيل كتابةً دون تنقيح بين معاصري المسيح، وتُرجم إلى لغات متعددة ابتداءً من القرن الثاني:
أ - بعد نشر الإنجيل شفوياً في كثير من بلاد الشرق والغرب، أُرسل ابتداءً من منتصف القرن الأول مكتوباً في كتب، بواسطة أشخاص عرفوا كل شيء عن المسيح، إمّا في هيئة سيرة تفصيلية له كما فعل متى ومرقس ولوقا ويوحنا، أو في هيئة شرحٍ لمبادئه وتعاليمه كما فعل بولس وبطرس ويعقوب وغيرهم، دون أن يقابل بعضهم ما كتبه على ما كتبه البعض الآخر، الأمر الذي يدل على نزاهتهم وعدم وجود أي تواطؤ بينهم، وقيام كل منهم بكتابة الإنجيل مستقلاً عن صاحبه.
ب - كان هؤلاء الأشخاص مختلفين عن بعضهم اختلافاً كبيراً لا يسمح لهم بالاتفاق على أمرٍ ما، إلا إذا كان هذا الأمر حقيقةً ملموسة لديهم جميعاً. فمتَّى كان محاسباً حريصاً، ومرقس شاباً متحمّساً، ولوقا طبيباً مدقّقاً، ويوحنا شيخاً رزيناً هادئاً، وبولس فيلسوفاً متعمقاً، وبطرس جريئاً جسوراً، ويعقوب خبيراً محنّكاً. وبينما كان لوقا الطبيب يونانياً يتمتع بدرجة عظيمة من الثقافة وحرية الفكر، كان معظم الآخرين من اليهود، واليهود أصوليون متزمّتون بطبيعتهم، لا يميلون إلى الدراسة أو التأليف. كما أنه لم يكن يخطر ببال واحدٍ من هؤلاء جميعاً أن ما كتبه عن المسيح، سيكون كتاب المسيحية الذي يتناقله الناس في كل العصور والبلاد، حتى كان يجوز الظن بأن واحداً منهم لجأ في كتابته إلى شيء من الموضوعات المستحدثة، أو أضاف إلى سيرة المسيح شيئاً أو حذف منها شيئاً آخر، لتكون حسب نظره ملائمةً لطبائع البشر جميعاً. بل كان غرضهم الوحيد أن يدوّنوا سيرة المسيح وتعاليمه كما عرفوها، وذلك لفائدة الذين لم يسمعوا عنها من معاصريهم.
وبعد ذلك كُتب الإنجيل في آلاف النسخ، كما تُرجم إلى لغاتٍ متعددة ابتداءً من القرن الثاني، لفائدة الذين اعتنقوا المسيحية من اليهود والوثنيين، الذين كانوا يتكلمون بهذه اللغات في البلاد المختلفة، ليُتلى في اجتماعات عبادتهم. فكان كثيرون يحفظون ما جاء فيه عن ظهر قلب، كما شهد يوستينوس وترتليان في القرن الثاني. وكتابة الإنجيل في آلاف النسخ، وترجمته إلى لغات متعددة، وانتشاره في بلاد مختلفة، وحفظ كثيرين ما جاء به عن ظهر قلب، يجعل إجراء أي تحريف في كل نسخة أمراً مستحيلاً.


3 - كُتب الإنجيل على ورق البردي أو جلد الغزال:
لم يكُتب الإنجيل على أحجار أو عظام، كما كانت تُكتب الحوادث والسِّيَر القديمة (حتى كان يجوز الظن أن بعض هذه المواد قد تآكل أو ضاع) بل كتبوه في كتب من ورق البردي وجلد الغزال بكل دقة وعناية. ثم نسخه الذين أتوا بعدهم على ورق البردي وجلد الغزال أيضاً، كما كان يفعل اليونان والرومان قديماً بكتبهم الهامة، الأمر الذي لا يدع مجالاً للظن بضياع جزء من الإنجيل وكتابة غيره بدله.

4 - عدم حرق النسخ الأصلية للإنجيل:
لم يتعمّد أحدٌ إحراق أو إتلاف النسخ الأصلية للإنجيل، كما حدث مع بعض الكتب القديمة التي أراد فريق من الناس إخفاءها، أو إخفاء شيء مما جاء فيها لغرضٍ في نفوسهم (حتى كان يُظن أن الإنجيل الذي في أيدينا الآن ليس هو الإنجيل الحقيقي) بل ظلّت هذه النسخ موجودةً كما هي، ونُقلت عنها ابتداءً من القرن الثاني نسخٌ كثيرة لا تزال باقية إلى الآن، كما سيتضح في الفصل الثاني.


5 - حافظ قدامى المسيحيين حتى على الأناجيل المزيفة ونشروها:
لم يحرق المسيحيون القدامى حتى الكتب التي ألّفها أصحاب البدع عن المسيح، في الفترة الواقعة بين أواخر القرن الثاني وأواخر القرن الرابع (لترويج بدعهم) وأطلقوا على كلٍ منها زوراً وبهتاناً اسم الإنجيل بل أبقاها هؤلاء المسيحيون كما هي، لثقتهم الكاملة في صدق الإنجيل الذي بين أيديهم. وليس هذا فحسب، بل وأيضاً طبعوها ونشروها بلغاتٍ كثيرة، مراعاةً لمبدأ حرية الرأي، وليُفسحوا المجال أمام الناس في كل العصور للمقارنة بين ما جاء في هذه الكتب، وبين ما جاء في الإنجيل الذي بين أيديهم، الأمر الذي يدل على أمانة المسيحيين القدامى ونزاهتهم وعدم جواز اتهامهم بإجراء أي تحريف في الإنجيل.



يتبع .....