بقلم: بطرس منصور
بعد ضغط شديد تراجع تيري جونز عن نيته حرق المصاحف يوم ذكرى الهجوم المفجع على بنايتي التوأم في نيويورك و سكنت العاصفة التي تأججت لعدة أسابيع في أمريكا. غير أن آخرون تبنوا المبادرة بدله وننتظر ختام هذا المسلسل السخيف، ولكن الخطير بذات الوقت، على أحر من الجمر. وكان تصريح جونز وهو راعي كنيسة صغيرة للغاية في فلوريدا قد اثار زوبعة من الأحاديث والبيانات الصحفية والتصريحات النارية والمقابلات الصحفية والنقاش على شبكة الفيس بوك وغيرها. إنها بمثابة "مجنون يرمي حجراً في البئر ونحتاج ألف عاقل لإخراجه".
هذه الزوبعة لم تقتصر على أمريكا بل وصلت إلى جميع أنحاء المعمورة ولم يُستثنى شرقنا منها. فقام العديد من رجال الدين المسيحيين بإطلاق التصريحات المنددة بهذه النية. ولم يتخلف عنهم الانجيليون في إصدار البيانات وخاصة ان الصحافة وصفت جونز كمن يقود كنيسة انجيلية او حتى معمدانية بحسب بعض التقارير. وأسرع مجمع الكنائس الانجيلية في سوريا ولبنان بإصدار بيانه الشاجب لهذه ألفكره وسار المجمع في بلادنا في أعقابه ببيان واضح ومشرّف .
وإزاء كل هذا يشعر المسيحي الانجيلي في الشرق بشعور مختلط . فمن جهة أثلجت صدورنا كلمات البيانات الانجيلية وخاصة الاقتباسات من التعاليم السامية للرب يسوع ولكن هناك شعور بعدم الراحة من الجهة الأخرى.
عدم الراحة ينبع من الشعور أن هذه البيانات والتصريحات جاءت لتعطي ضمانات للأغلبية المسلمة أو أنها بمثابة بوليصة تأمين للمسيحيين مع أنها عمليًا توضيح لما هو مفروغ منه. سبب وصف البيانات هكذا هو ما حدث في الماضي القريب إذ أدت تصريحات مناهضة للإسلام في الغرب من مسيحيين و"مسيحيين" لاعتداءات عديدة على ممتلكات وأرواح المسيحيين في أنحاء العالم. فمثلاً نشر صور الكاريكاتير الدنمركية المسيئة لنبي الإسلام قبل عدة سنوات حذت ببعض الرعاع الاعتداء على كنائس في أرجاء العالم. وقد جرى كل ذلك على الرغم أن رسام الكاريكاتير الدنماركي لا يمت للمسيحيين او للمسيحية بصلة. وحتى لو افترضنا جدلاً انه ينتمي لاحدى شيّع المسيحية (مع ان المسيحيين الحقيقيين لا يعملون عملته) –فلماذا يتوجب على مسيحي آخر او مكان عبادة مسيحي يبعد آلاف الأميال أن يتعرض للأذى نتيجة لذلك؟
لقد عاش المسيحيون العرب جنباَ الى جنب المسلمين من أبناء جلدتهم لمئات السنين في الشرق الأوسط وبرز تفاوت في تعامل السلطة المسلمة مع الأقلية المسيحية بحسب القائد في كل فترة وأخرى. لكن المسيحيون في الشرق اثبتوا أمانتهم وصدقهم ووقوفهم في خندق واحد مع المسلمين في الشرق في كل الظروف (بما في ذلك الحروب الصليبية) فما الداعي اليوم لإثبات رفضنا القاطع لمخطط حرق المصاحف؟
ان هشاشة العلاقة بين المسيحيين والمسلمين طفت على السطح بمجرد تصريحات هذا القسيس الباحث عن الشهرة. ويتساءل المرء عن النهج الذي يتوجب على المسيحيين والمسلمين على السواء اتخاذه لرص الصفوف وتكوين نسيج اجتماعي متين لا يتأثر بتصريح هنا أو هناك؟
بعض المسيحيين اتخذوا نهجًا مساومًا مع الأغلبية المسلمة وحاولوا طمس الفروق الدينية بين المسلمين والمسيحيين وظنوا أنهم بهذا يؤدون خدمة في سبيل التقارب. لقد اخطأ هؤلاء لأن هذا الموقف يخون الحقيقة ويحزن الرب. انه موقف خنوع ومزيّف لا يُكسب هؤلاء احترام رفاقهم المسلمين.
الموقف الأفضل هو الذي يضع الأمور في نصابها الحقيقي والصحيح. فالمشترك يوضع على الطاولة لنحتفل به، كما المختلف والشائك لنحاول التعامل معه. حري بالمسيحيين والمسلمين العمل على حوار مفتوح لا يتم فيه إخفاء الاختلافات الدينية بل الحديث عنها بحرية وانفتاح. كما يتوجب تطوير العلاقات الاجتماعية والتثقيفية بين أبناء الشعب الواحد لزيادة اللحمة. علينا كإنجيليين أن لا نقف وقفة المتفرج في حوار مسيحي-إسلامي بل ان نأخذ دورًا فعالاً فيه. بهذا نكون جزءًا من الاتفاق على قواعد وآليات العمل لحل الإشكالات ومنع شعبنا من البلل الذي قد يصيبنا إثر أمطار قذرة أدى لهطولها فرد من أمريكا بالكاد يمثل نفسه