يمسكُ بفرح عكازه ..! وهو يحاول أن يركض بمشيته،نحو يوم يتفاءل بقدومه؛ فرغم أنه تقاعد مِن عمله ... لكنّه بقي على نشاطه !

تمسكُ حقيبة يدها بفخر ..! وهي تنتظر سيارة الأجرة؛تذهب لعملها اليومي بفرح وهي تبحث عنه كلّ يومٍ بنهم ... لكن تحسّها خاملة بمشيتها !

ويلتقيان:هي عائدةٌ مِن عملها.! وهو عائدٌ أيضاً ... إلى منزله، في الحديقة المجاورة لبيتيهما هي تعبة تتخلّع بضيق ... هو فرِحٌ يمشي الهوينى بتفاؤله !
فعملها ليس مضنياً البتة، رغم ذلك ... عبقَت الحديقة برائحة عطورها الزكيّة ...
ومِن حولها الدبابير تأزّ ... تبسَّمت له ... ردّ التحية بوقار !
هو رجلٌ وقور .! وهي تتأبط حقيبتها الفضية اللامعة، فكلّ شيء عندها يلمع يصجّ ...
حذاؤها الفضة المنسجم،عيناها ... جبهتها... ساعتها الفضة لها قيمتها ... طبعاً !

هو تنتظره زوجته على الشرفة ! أما هي فتنتظرها نظرات شبان الحارة مِن خلف ستائر الشرفات ... فالكُلّ ينتظر قدومها وعطرها المميز،وهو ينتظر رائحة طبخة زوجته !
الكلّ احترقتْ طبختهم .! إلاّ هو أكلها بنهمٍ كعادته وذهب ليأخذ راحته ... القيلولة.
أما هي فأخذت تقلّم أظافرها، تلونها بألوان الموضة ... تجهز نفسها لعملها المسائي، بنشاط منقطع النظير !

وتأتي الساعة ... تهبط الأميرة .! ماسكةً بيدها جهازها الخلوي وكأن ساحرة تدخّلَت ... سيارة فخمة وصلَت ... وطارت! ومعها قلوب شبان الحارة ... كأنّها نحلة تستجدي العسل.
هو يُطفئ تلفازه ... انتهى مسلسله .! يستعد للنوم ... انتهت سهرته،خيّم على الحارة الهدوء فنوماً هنيئاً ... لكِ وأحلاماً سعيدة ... لكَ.
وتصبحون كُلكم ... على خير !

صباح اليوم التالي

صدفةً اصطدَمتُ بها ...
ـ عفوكِ قُلت ... ردّت بابتسامة !
صدفةٌ ربما ... خيرٌ مِن ميعاد ،أعطتني بعينيها ألف ميعاد،أخذتُ واحداً فقط !

كان الوقت متأخراً ... صعدتُ الدرج المؤدي إلى مسكنها بهدوء الخائف مِن المجهول، متردد وسعيد أنا... تُرى هل اصطدتُ طريدة ... أَم أنا الطريدة !؟
أأدق الباب !؟
ترددت لحظة أفكّر،ثم رتبتُ ملابسي .. شَعري .. ونقَرت كالواثق
هل يُفتح الباب !؟ كثيرة الأسئلة تراودني؛تصطدم بفكري وتهرب ..!
أصوات ضحكات،أقدام تقترب ... وتبتعد ... وأخيراً فُتح الباب ... رائحة عطرها العنبري أخذتني،أمسكتْ يدي ... أدخلتني ... أجلستني بعد أن أخذتْ سترتي وأنا كالمصعوق ... أنظر بدهشة الطفل!
ـ أتشرب شيئاً ؟
أجبتُ محركاً رأسي لليسار كأني أقول لها... ربما !
لمْ تنتظر الرد ... فكلّ شيء جاهز وبلحظة وضعتْ الشراب أمامي ...
وجلستْ ترمقني بعينيها ... فاحصة متقدة ... هادئة! تنتظر منّي حرفاً ... كلمة،
لِم لا ترحمني وتبدأ بالحوار!؟ ضحكتْ ضحكةً رنّانة وكأنّها ترغب في كسر الجليد ...
ـ خطوة عزيزة ... أنا سعيدة بكَ !
ـ وأنا بالأكثر ... وقدمتُ لها وردة.
ـ هذه أول مرة يزورني صديق! يحمل وردة حمراء ... وجميلة !
سألتُ في نفسي: لِم تنعتني هكذا ؟
وأكملتْ: أنا فتاة عادية ...

لماذا أنا ... تكلمني هكذا !؟ بدت عليَّ علامات الاستغراب ...
وأكدتْ: أحببت الحياة في المدينة؛ الدراسة فيها ... وحتى جَوّها العام
تفوقتُ وحصلتُ على شهادة جامعية واعمل اليوم كطبيبة في شركة طبيّة ...

ماذا ... أوَتسرد قصة حياتها !؟

اقتربتْ منّي على الأريكة ... أكثر وألقتْ برحى رأسها على صدري؛
دمعة واحدة فقط ... رطّبتْ فؤادي وطحنتْ برحى صدرها قلبي ...
ـ آه لو تعلم ... كفكفتْ دمعتها؛ كم مِن العذاب قاسيتْ:الوحدة .. الغربة .. الضياع
ـ ما عهدتك هكذا تعيسة! أين ضحكتكِ الرنّانة؛ قوتك .. تفاؤلك .. عنفوانك!؟ الكل يبكي على صدركِ ... الكل يتراكض نحوك باكياً .. شاكياً .. متألماً .. منكسراً،
هل انقلبتْ اليوم الأدوار !؟
ـ لا لا .. أنا بحاجة فقط لصديق، أوَترغب فقط بصداقتي !؟
دهشتُ وعلا الاحمرار وجهي وأنا مَن ذهبت أفكاره بعيداً! مَن ظن أفكاراً أخرى ...
ـ أنتِ بعظمتكِ تطلبين صداقتي!؟ وأنا لا أملك ما يرضي غرورك فأنا شاب عادي جداً.
ـ أعلم ... هذا تماماً ما أريد !
ـ ولفيف البشر مِن حواليكِ! أين ذهبوا فجأة كلهم ؟
ـ لا لا أريدهم ... لا أريد أحداً منهم، ما أنا إلا طريدة وصيدٌ بالنسبة لهم.
الحقيقة ... المفاجأة صعقتني !

ـ لقد تـأخر الوقت ... أنا ذاهب.
ـ وتتركني هكذا! لن أدعكَ تذهب ... أنت.! فأنتَ لي هدية من عَلُ ... أريد أن أقضي الليل معكَ
ـ الليل معي !؟ أنا ...
ـ نتسامر ونحكي حتى الصباح ...

بَعد أيّام ...

أومأ إليّ بيده ... تفضل،لكَ زمن لم تشرب القهوة ... عندنا !
صعدتُ لنجلس على الشرفة ... تلك التي عليها ... تنتظره زوجته.
جلسنا وطاولة النرد أمامنا تنتظر لاعباً ... بلا شك أنا! وأخذ صدى صوت النرد يلعلع.
هفّت رائحة القهوة ... ووصلتْ
ـ أهلاً وسهلاً ... خطوة عزيزة ... تفضل
وكأن كلَّ شيء ... كان جاهزاً بانتظاري !
ـ دعِ الحجر مكانه ... محبوسٌ بأحجاري أنت
ـ يبدو أنكَ تحسنتَ ... بلعبكَ للطاولة.
ـ طبعاً تريد أن تغلبني غشاً ... يا محتال !

ـ (هامساً) أوَتعلم أنّها ليست زوجتي ...
أُم أولادي تُوفّيت ... فتزوجتها لنمضي ما تبقّى مِن عُمرينا معاً،نعيش كصديقين ...
ـ كصديقين !؟ وأنا أيضاً صار عندي ... نعم،فمنذ أيام التقيتُ جارتنا هذه وقضيتُ الليل عندها حتى بزوغ الفجر !
ـ (ساخراً) وطبعاً صليتم الفجر ... أليس كذلك !؟
ـ طلبتْ منّي أن نكون صديقين ... أنت لا تصدقني ..؟ ما أنت إلاّ عجوزٌ محتال !
ـ إذن صرتَ مثلي ... عندك صديقة درب !
ـ أرجوك ... دع هذا الأمر سراً بيننا !
ـ سراً بيننا ..! وأهل الحارة ... هل نسيتهم ؟
ـ أهل الحارة ... ما لهم بي وبها! ليهتموا بأمورهم أولاً ... وليتركوا الناس،فلكل واحد منهم مشاكله وشجونه ...
ـ كما تريد ... أنت حُر !

إلتقيتها يوماً تركب سيارة سوداء فخمة! حاولتْ ألا تراني ... بنظراتها تتحاشاني رغبتُ لو أتبعها حيث تذهب ... لكن كالسهم طارت صامتة ... إلى مبتغاها .! أصابتني فقتلت كبريائي ... رمتني!
ـ لا تُعرها انتباهاً يا بُني ... دعها وشأنها.
ـ وكيف أستطيع !؟ هي صديقتي ...

وقفتُ حائراً أفكّر فيما بين نفسي،كيف حوّلتْ صديقتي الطب مِن علاج للجسد
إلى علاج للنفس ... بالجسد!؟ طب حديث ربما يشفي أكثر من مريض ومرض،
لكن هل يُبرئ فعلاً أم يخدّر النفس والجسد ..!؟ إلى أن يهرم الجسد، فيجلس بقرب نفسٍ أهرمها الزمن، ليقضي ما تبقى مِنه حتى يفنى الجسد !


رياض جَرمق
حزيران 2009