من ينظر الى احوالناوظروفنا واوضاعنا الحياتية والسياسية والثقافية والفنية يقتنع بكل تأكيد ان التبولةصناعة لبنانية مئة في المئة.
سيل جارف من المهرجانات التي تكاد تقفز وتضج في كلحي في لبنان – موسيقى طرب رقص سهر تسابق محموم لاستقطاب المشاهدين مقيمين وزائرين. من يتابع هذا المسلسل الصيفي السياحي يظن نفسه يقيم على كوكب آخر من هذا البلد. لانفي المقابل موجة عارمة من الاتهامات والسجالات والمناكفات والحفلات الكلاميةالاعلامية التي تحتل الشاشات ويتقنها جيدا اهل السلطة والسياسة، فلا يتركون شاردةاو واردة الا ويعلقون عليها ويفلون جنباتها ومقاديرها، ولو امتهنوا علوم الكيمياءوالفيزياء لأبدعوا. ويتناولونها جملة وتفصيلا ويشرحونها حتى العظام وكأن لا عمل لهمسوى الجراحة الكلامية والتجريح المبتذل. ساهين عن هموم الناس وأعبائهم الماديةوالحياتية واليومية. من قهر وفقر وبطالة وطرقات مأزومة تدرب المرء على يوم الحشرالاخير. وتقنين يجتاح كل مرافق الحياة من ماء وكهرباء وطبابة وتعليم وضمان وشيخوخةمهينة مذلة يتمنى كل من يعانيها تطبيق قانون الموت الرحيم. والناظر من بعيد الى هذاالمشهد الانفصامي بين الافتتان والفتنة يدرك حقيقة كيف اخترعت خلطةالتبولة.
ويدخل على خليط هذه التبولة العصية على الفهم استهلاكية عبادة المالوبيع كل القيم والاخلاق والمبادئ سبيلاً للحصول عليه من بغاء ودعارة وتوسل كلالمحرمات والموبقات وأخطرها شبكات عمالة وخيانة وتجسس تعمل لمصلحة العدو الاسرائيليالذي يسعى جاهدا لتدمير لبنان على رؤوس اهله وضمه الى حلم صهيون الجديدة. وعلى هامشهذا الخليط تقوم التهديدات بالتدمير والاجتياح وحروب الابادة والمجازر على المقلبالآخر من الحدود الجنوبية. يصحو وينام الزعماء الاسرائيليون على التهديد والوعيدبالويل والثبور وعظائم الامور، لان احدا في هذا العالم من اقصاه الى ادناه، ومنذصلب المسيح، استطاع ان يقف ويقاوم ويقول لها كفى عدوانا وظلما وتعسفا... وتقومالقيامة على المقاومة اللبنانية من الداخل والخارج لانها تجرأت على تحدي الغطرسةالاسرائيلية والتي عمي عنها بصر وبصيرة العالم الخاضع لها اقتصاديا واعلاميا اماخوفا وجبنا او دعما ومصلحة. لا بد لكل تسلق من دفعة الماسوني الصهيوني. وينبريالعالم الغارق في الفساد حتى اذنيه في تلفيق التهم الباطلة وتلطيخ سمعة هذهالمقاومة القابعة في ارضها وضيعها تدافع عن حقها وأهلها وبيوتها، ما دام العدوانالغاشم هو السمة الاساس في وجود اسرائيل وما دام العالم يعارض اي تسليح جدي وقادرلجيش لبنان... وتبقى هذه المقاومة البحصة الموجعة في عين اسرائيل تقض مضجعها ليلاونهارا لان هذا الوجود الدفاعي المقاومة يشكل تهديدا مستجدا لسيطرتها العسكريةالكاملة في المنطقة. وهذا لن تبلعه بسهولة، لانه يشكل عائقا دون تدفق المهاجريناليهود الحالمين بأرض الميعاد وينابيع اللبن والعسل وحلم الفرات والنيل. فالصهيونيةالتي زحفت نحو فلسطين جديا منذ العام 1880 قامت على استقدام ملايين اليهود وهي تحلمبالمزيد من هذا الخليط البابلي العجيب من الجنسيات والمعتقدات والنزعات لتثبيتوجودها.
هذا موجز عن معمعة التبولة اللبنانية. اما الزيت الذي يصب عليها والذيصدم الجميع فهو الخلافات المادية الرحبانية الفيروزية والتي تشوه الرمز الاسمىللاغنية وتحبط اجيالا وأجيالا عربية تربت ونشأت على سماع الصوت الماورائي لأيقونةالاغنية الفنانة فيروز. منذ ما قبل منتصف القرن الماضي شد صوت فيروز الآذان والقلوبوالضمائر وأدركت بالعقل والشعور سر عبقرية صوتها. فكان وعلى مدى ما يقارب النصف قرنالمكون الوحيد الذي جمع الامة العربية حين اخفقت كل المعادلات لجمعها وتوحيدها. كمطفل من اليمن او لبنان او تونس... شبّ على صوت فيروز... كم من فنان وكاتب وشاعراستوحى من مجمل صوتها احلى اعماله واعظم اشعاره.
وكم من الصور والالوان استطاعتانامل صوت فيروز خطها على لوحات الفنانين الكبار... وكم من كؤوس الزهر ونبضات قلوبالورد. كم من الحان المطر وهمسات العشب تلامسها قبلات الندى، يسمعها ثغاء الغدرانويشمها اريج البراري نحلق في رحابها مع آفاق الروح. كم وكم من الجمالات وشلالاتالنشوة صبتها فيروز في وجودنا...
حرام... حرام ان تعكر صفوها هذه الخلافاتالمادية البحتة. حرام ان نشوه صورة هذا التكامل الجمالي بين الموسيقى الرائعةوالصوت الفضائي البلوري.
بمشادات ومساجلات... حرام ان يصاب هذا الفن الراقيبعدوى المناكفات التي تضج بها الساحة اللبنانية وكأن اللبناني مفطور على الخلاف وهوجزء من تركيبته وجيناته... الى الرحبانية وفيروز نقول ليكن زيتكم مقدسا كما عهدناهوأحببناه ونشأنا عليه وسنرحل على انغامه... لا تصبوا الزيت الحامي على خليط هذهالتبولة... لا تشوهوا وصفتكم الراقية الجامعة السموية بمكونات تبولتهم... كفانا لقدشبعنا منها.
بقلم اقبال الشايب غانم