فاتن عساف
دللوها لأنها كانت تدللهم... وتعصر خلاصة قلبها صافياً في فناجينهم.. ومع أنها كانت مُرّة كطعم شظف العيش، إلا أنها وبكل محبة صنعت لهم مزاجاً طيباً وقدمت روحها نكهة صافية ولا أطيب.... إنها "الدلّة" التي احتفى بها كبار شيوخهم ووضعوها فوق الرفوف، أو فوق جمر اللظى لتُفَوّح عبقاً يشتمّه الضيوف من البعيد البعيد. الشفّة (الرشفة) من القهوة العربية كم تجاوز بسببها إنسان عن أخطاء إنسان وتقاربت القلوب والنفوس، وارتاحت لها الضمائر واشرأبت لها الأرواح فمازالت خيمتها عالية ومازالت أطنابها مشدودة، ومازالت الأرياح تتلاعب بها، مرحبة بالضيفان الذين يقدمون من أجل هذا الفنجان العربي.
موقع eQunatyra زار الشيخ "زعل السلوم" شيخ عشيرة العجارمة بمضافته الواقعة في "جديدة عرطوز" بدمشق والتي تشكل ملتقى لأبناء العشيرة لسهراتهم وحل خلافتهم ليحدثنا عن القهوة بأنها ليس مجرد مشروب عادي في حياة البدو بل عالم مملوء بالأسرار، والدلالات الرمزية وارتباطها بالموروث الشعبي الجولاني قائلاً: «هي من أولويات إكرام الضيف، انتشرت في البداية من اليمن ثم انتشرت بالوطن العربي فأصبحت رمزاً من رموز العرب بمضافتهم، تختلف دلالات فنجان القهوة باختلاف المناسبة فعلى المعزب أن يقدم للضيف ثلاثة فناجين وهي على النحو التالي: فنجان (الضيف) هو فنجان الترحيب بالضيف سواء أكان معروفاً أم غير معروف وشرب هذا الفنجان لا بد منه، وعند اكتفاء الضيف بهذا الفنجان، عليه هزه مع عبارة (دايمة) أو (عامرة) بينما يدعى الفنجان الثاني فنجان (الكيف) يوصف شاربه بأنه صاحب معتاد على شرب القهوة، فنجان (السيف) هو الثالث ويفترض بمن يشربه أن يكون عوناً للمضيف في حالة الشدائد».
ويتابع الشيخ "زعل" عن تنوع مسميات فناجين القهوة لدى البدو بتنوع المناسبة منها:
«* فنجان (الثأر) يؤمن المجتمع البدوي بالثأر كثيراً، جرائم القتل العمد لها عواقب خطيرة عند المجتمعات البدوية، عند حدوث جريمة أو شجار أو خلاف بين المتجاورين أو العشائر المجاورة الأخرى فتكلف جاهه لإصلاح ذات البين وتحضر جاهه لأهل المجني عليه أو لأهل المعتدي، ويجلسون عنده وتقدم القهوة العربية في هذه المناسبة إلى رئيس هذه الجاهة إلا أنها لا تشرب رأساً ويوضع الفنجان على أرض المضافة، ولا يشربه أحد منهم حتى يطلبوا أو يقولوا لأهل المجني عليه (أننا لن نشرب قهوتك حتى تلبي طلبنا) فيسألهم ما طلبكم؟؟ فيذكرون له طلبهم فيقول لهم: (ابشروا وصلتوا اشربوا قهوتكم واللي جايين عليه سيتم بأذن الله) فتشرب القهوة ويبدؤون بالقيام بتفصيلات وإجراءات الصلح، وأيضا تؤخذ (بالعطوة) لأنه عند ارتكاب الجريمة فالعرب لديهم عطوة أي فرصة لأهل الجاني حتى ينتقلوا إلى مكان آخر آمن ليسلموا من فورة الدم لان فورة الدم، قد تؤدي لحرق مساكن أو قتل مما يوسع الجريمة، لذلك يأتي بعض الوجهاء من العشائر الأخرى والمجاورة ليطلبوا (العطوة) وينزلوا لمضافة شيخ العشيرة فتقدم لهم القهوة ويرفضون شربها حتى يؤدى طلبهم.
* فنجان (الجاهة) في جاهة العروس عندما يتم طلب يد فتاة من أفراد العشيرة أو من عشائر مجاورة أو من مكان آخر فتشكل جاهة يترأسها شيخ العشيرة أو احد الوجهاء ليذهب إلى منزل والد العروس بعد تحديد للاجتماع بالطرف الآخر حيث يتم استقبالهم وبعد أن يأخذوا أماكنهم، تقدم لهم القهوة المرة فيتناول أكبرهم قدراً وسناً فنجاناً ويضعه على الأرض ويمتنع عن شربه حتى تلبى حاجتهم التي جاؤوا من أجلها بقوله: (لا نشرب هذا الفنجان إلا الجايين له نروح به)».
أما عن العادات البدوية الأصيلة المتوارثة في تقديم القهوة المرة فيقول السيد "محمد حسين اليعقوب العجرمي" مدير أوقاف القنيطرة سابقاً واصفاً مراحل صب القهوة: «هي على (القهوجي) قبل أن يعرضها على الضيوف أن يذوقها أمامهم أو يسكبها لصاحب البيت لاطمئنان الضيوف على سلامة القهوة (المذاق والطعم) يبدأ القهوجي صب القهوة من جهة اليمين لشيخ القبيلة من الضيوف وإن لم يكن تصب لأكرمهم ثم فارسهم ثم اليمين اليمين.
يبدأ تقديم القهوة للضيف باليد اليمنى، ولا يقدمها باليد اليسرى أبداً، يتناول الضيف فنجان المرة من (القهوجى) بيده اليمنى أيضا، وعند صب القهوة في الفنجان لا يتم ملؤه بل يصب ربع الفنجان فقط، ويعد عيباً كبيراً تقديم فنجان قهوة فيه كسر بسيط، يستمر (القهوجى) في تقديم القهوة للضيف حتى يهز الضيف الفنجان هزة خفيفة رمز الاكتفاء فيعرف (القهوجى) أن الضيف اكتفى».
وعن عادة كسر الفنجان قال: «يكسر الفنجان بعد أن يقدم لشيخ العشيرة أو المحافظ أو رئيس الدولة أو مسؤول كبير، فيكسر الفنجان بعد أن يشرب حتى لا يشرب بعده أحد بذات الفنجان وحتى لا يتجرأ أحد على الشرب من فنجانه للدلالة على قيمته وأهميته».
من الأدوات التي تستخدم في إعداد القهوة لدى البدو قال: «(المحمصة) أو (المحماس) حسب لهجة البدو بالجولان تستخدم لتحميص القهوة، (المبردة) هي عبارة عن وعاء خشبي لتبريد الحب المحمص، (المهباش) منهم يطلقون عليه الجرن أو النجر، يستخدم لطحن القهوة مصنوع من شجرة البطم، أما الدلال هي مجموعة من الأباريق وتقسم ثلاثة أقسام: الأولى (المصب) تحوي قهوة مع الهيل المطحون وتقدم للضيوف،(الطباخ) هو اكبر من المصب وتوضع به القهوة المحمسة، (التشريبة) هو وعاء يضاف إليه ما تبقى من القهوة تسمى بالتشريبة (المجربة) هي وعاء مصنوع من جلد الماعز مدبوغ بشكل جيد حتى لا تكتسب القهوة طعماً ورائحة من الجلد وهو وعاء تخزن به القهوة سعة 5-10 كيلوغرامات».
ويتابع "العجرمي" عن طريقة تحضير القهوة العربية توضع كمية حسب الطلب ويتم تحميصه في (المحماسة) وتوضع على النار فيقوم (القهوجي) أو المسؤول عن القهوة بتحميصها لتأخذ لون الشقار الغامق، وعندما تنضج وتصبح جاهزة توضع في (المبردة) ويراعى ألا تلمس باليد فترة التبريد حفاظاً على طعم القهوة فقد قال البدو (خير القهوة من الحديد إلى الحديد لا تلامسها كفوف العبيد)، بعدها تؤخذ وتوضع (بالمهباج)، ودقها له أصول فلا يجب أن تكون ناعمة جدا ولا خشنة جدا، ثم توضع بوعاء (التشريبة)، لتغلي مدة نصف ساعة على نار خفيفة، بفترة الغليان على طباخها ألا يقوم بعملية (النفخ) على القهوة وهي بحالة الفوران وقيل (خير القهوة لا ملموسة ولا منفوسة)، يجهز حب الهال أو الهيل ليدق (بالمهباش) ونسمي المهباش بالعزّام بفتح العين آي يقوم بإعلام الفريق المحيط بالشيخ أو بالقرية بأنه اليوم عند الشيخ أو عند زيد من الناس تجدون القهوة المرة، فيأتون ليتناولوا القهوة لديه، توضع القهوة في المصب أو الدلة بعد إضافة الهيل المطحون».
وأضاف: «ثم يقوم القهوجي بصبها وتوزيعها على الضيوف، وهكذا حتى يشرب كل الضيوف الموجودون فيضعها على (النقرة) وهي مكان توضع فيه النار حيث الحطب الذي يشتعل فيتحول إلى فحم وتوضع عليه الدلة أو المصب حتى يبقى ساخنا أما بيومنا هذا فيتم وضع المنقل ويوجد مناقل ذات أشكال متعددة وأيضا تشعل به النار حتى يقال "ورث النار" الجمر والفحم وتوضع الدلة والركوة فيه حتى تبقى ساخنة لأنه لا يجوز تقديم القهوة المرة وهي باردة، وبلهجتنا من العيب أن تقول: قهوتك باردة: وإنما تقول: دافية، أي بحاجة لتسخين، وقليل من أفراد العشيرة التي يخلوا بيتهم من القهوة المرة سواء أكان فقيرا أم غنياً وهم يحافظون على هذه العادة وهي عادة ايجابية ويعتز بها العرب وحتى توارثها الأجانب عنا وأصبحت اليوم تقدم في كثير من الدول الأجنبية».
وعن سؤال للأستاذ والباحث "عبد الكريم الحمصي" ابن محافظة "درعا" حول معاني ودلائل المعاميل ودلال القهوة والمهباج أجاب: «هي أمامنا منظر ناطق نراه بأعيننا ونلمسه بأيدينا، معنى الدلال من الدلال أي البنت المدللة، البنت المدللة تكون جميلة لها أهلها الذين يحمونها وأنا أظن أن كلمة (الكانون) من كانون الذي هو فحل الشتاء والنار فاكهة الشتاء لذلك هذا الكانون دائما هو كانون ويحتاج الى النار من اجل تسخين القهوة العربية، ولماذا سمي الفنجان فنجانا؟ لأنه من فن الجان يهتز كما يهتز الجان كما كانت تعتقد العرب القديمة، أما (المهباش) فهو من الهبش والهبش هو الكسب أي كسب المال ليشتري به القهوة ويضع هذا الحب المحمس ويدقه دقا جميلا في هذا (النجر) أو (المهباش)، أما (المحماسة) فهي من الحماس والحماس من الشجاعة لان الكرم يحتاج إلى الشجاعة والى الحماس والى العزيمة والقوة فلذلك كل وليمة يقولون عنها في منطقتنا (عزيمة) وأن هذه المعاني تستحقها هذه (الدلال) وهذا (المهباش) وهذا (الكانون) وهذا (المحماس).
ومن أشهر ما قيل عن الفنجان/ والشمس أغربت يا ابن شعلان /أريد أدور معازيبي/ والدلة تسكب على الفنجان/ يا بهارها جوزة الطيبي».
وعن معنى اسم (القهوة) قال: «يقال إنها مشتقة من (الاقهاء) وهو الاحتواء أي الكراهة أو الاقهاء بمعنى (الإقعاد) من أقهى الرجل عن الشيء أي قعد عنه، أيضا يقال إنها سميت لأنها تقهى شاربها عن الطعام، أي تشبعه أو تذهب بشهوته وقيل إن لفظ (القهوة) مأخوذ من كلمة (كافا) اسم قرية في الحبشة كانت أشجار القهوة تنبت حولها ومنها نحت اسم (القهوة)، أما النثيرة فستكون عن آمر طالما غفل عنه الناس، وهو أن القهوة تكون عربون محبة بين الحبيب والحبيبة، فعندما يقدم المحب لمحبوبته فنجانا من القهوة العربية فهذا يدل على عمق المحبة وصدقها.
وأقول: بالبلاد نشميات حلوة وشبان
وشياب للضيفان يقولون جيرة
ودلال صفر مصحيات وفنجان
ومن اللظى بشرابها مستجيرة
يا بنت يا زين العرب ليك كردان
ما يلبق إلا ليك لا يا أميرة
وقد تغنى الكثير من الشعراء بالقهوة العربية بشعرهم الفصيح والمحكي والتقينا مصادفة شاعر الربابة "يحيى القنطار" فاتحفنى لنا بالآبيات واصفاً القهوة العربية مغناة على الربابة فقال:
يا واصفين البن وصف المحبين
من الشوق للمحبوب كلا يعاني
البن ما هو بس كيف وتهجين
البن سر الجود من شاعر الربابة"يحيى القنطار"دور هاني
ملقى النشامى بعاليات الدواوين
ومشروب أهلنا من قديم الزماني
وحولها شيوخ مثل جمع المصلين
بمقعد ترجاه طيب وأماني
ويا ما أحلى الفنجال بمقعد زين
يشفيك ولو انك صويب وتعاني
ومعزب الرحمن يزقي بفناجيل
ويبشر الجيران ضيفا لفاني.