مدينة العذراء التي عصيت على الموت
ها قد أقبلت نسائم نيسان تحمل فراشاتٍ وسلام إلى شاطئ مدينة البحار، وسربلت تلالها بأغمارٍ من بنفسجٍ وشقائق النّعمان،وجالت على كل البيوت المتعانقة في وسط المدينة وسكبت على قرميدها دفأً وأمان، وبعد أن أروتْ ظمآنةُ النسمة ِمن ماءِ البئرِنفسها، هامت على طريقِ الجبالِ العالية حيثُ تسكنُ النسور وتبني لها بيوت بين الصخور القاسية، لتعزّي النسّاك في القلالي النائية ببشائر القيامةالآتية.
وحيثما كانتِ المدينةُ تعجقُ بالحياة، ونفوسُ الناسِ ترنو كلَّ يومٍ للصلاة في الصباح وعند المساء لتنشدَ معَ كلّ غروبٍ لحنَ هذا الزمان" يا ربَّ القوَّات كن معنا على الأحزان " ،كانت أمواجُ البحرِ تحملُ الشرورَ، وتُبحرُ في سفن الضغينة والفجور، وشراع الأحقاد يسوسها ونفوس الطامعين والحسّاد تعلو أبراجها.
كان ذلك اليوم هو الجمعة الأولى من الصوم المقدّس استعداداً للفصح العظيم....
وما أن رأى حرس المدينة سفن الأعداء تلوحُ في البعيد، حتّى سارعوا كالبرقِ يخبرونَ رجالَ المدينةِ الحبيبة وقادتها، فأطلقوا لذلك أبواقَ الإنذار والخطر القريب، ودقّت أجراسُ الكنائسِ وعلا صوتُ المنادين من كلِّ صوب: أقفلوا أبواب المدينة وارفعوا الحواجزَ واختبئوا خلفَ الأسوار.
لم تكنِ المدينةُ تمتلكُ جيشاً كبيراً أو أسطولاً منظّماً للدفاعِ عن نفسها، ولا عرفتْ في حياتها طعمَ السيف مذ قرأت كيفَ أُغمدَ سيفُ التلميذِ في الغمد لمّا جاؤوا يأخذون المعلّم إلى الصليب
فما كان العمل؟!
اجتمع المعلمّونَ والفلاسفةُ والحكّامُ والكهنةُ في بلاط الملك الحكيم، وبدأو يدرسون تداعيات الأمور.
قال الوزير: يا مليكنا الحبيب، أَنظرُ اليومَ بخوفٍ على مستقبلِ مدينتنا فإنَّ الشرَّ المحدقَ بنا كبير، والهجومُ العدائيُّ يشكّل الخطرَ الجسيمَ على سياسةِ السلامِ في مدينتنا ويهدّدُ وجودها ومستقبلها الواعدِ المبين، وأقترحُ لذلك جمعَ الجيشِ بأسرعِ وقت، وطَلَبِ المساعدةِ من المدنِ المجاورةِ لكي تُعين، فإنّنا لا نقوَ على مواجهةِ العدوّ منفردين.
أطرقَ الملكُ رأسهُ مفكِّراً وأومئَ إلى مستشارهِ الحكيم لكي يدلي برأيه.
فوقفَ حكيمُ المدينةِ وقال:
يا سيّدي ويا أخوتي... من خبرتي الطويلة في هذه المشاكل فإنّني أعلمُ أنّ الخطرَ المحيطَ بمدينتنا كالزلازل، لا يمكن مواجهته حرباً ولا دفاعاً بجيشنا البسيط الوسائل، كما أنَّ طلَبَ المعونةِ من جيراننا الأفاضل سيكلِفنا الوقتَ الطويلَ غير الملائم، وكما ترون أيها السادة بأنّ العدوّ على الشاطئ صار قريب لينازل، وما هي إلا ليلة ويطأ ترابَ أرضنا فيقاتل!!
الملك: فما نفعل أيّها الحكيم؟
المستشار: أقترح أن نرسل وفداً إلى عدوّنا من الحكماءِ وأهل الحوار، لعلّنا بالحكمةِ واللسان نستطيع أن نحلّ الأمور، والفرارَ من موتٍ محتّمٍ وهزيمة على مدى الأدهار، فنَسْلمُ من دمارٍ كبير ونكسب وقتاً كثير لنحفظ به مدينتنا ونبقيها مدينة السلام والأمان لكل الأنام.
"وأنتَ يا أبتِ ماذا تقول" قال الملك.
كان الأب "توما" كاهنَ المدينةِ وراعي خرافها الأمين.. راهبٌ عتيقٌ من القلالي التي تغمرُ جبالَ المدينة. مشهودٌ له بين الرعيّةِ بالتقوى وحِفظِ التسليم، أمينٌ على تراثِ الكنيسةِ ذات الرأي المستقيم، ومجاهرٌ لا يحيدُ ضدّ كل الهرطقات، وحكمته كبيرة في حلِّ الخلافاتِ والمشكلات بروحِ المحبةِ والتقوى والصلاة.
وقفَ الأبُ توما بين المجتمعين ورسمَ إشارةَ الصليب وقال:
يا أبنائي " لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولا يستطيعون قتل النفس"
إنّهم لا يقدروا أن يمسّوا شعرةً من رؤوسكم، فالربّ الباري الخليقة بأسرها يحفظها بمشيئته ،وتظلّلُكم عنايته مع كلَّ نسمةٍ أمينةٍ على كنيسة الرب، وهكذا كنتم أنتم في هذه المدينة، حفظتم في قلوبكم كنيسته عروساً سنيّةً لا عيبَ فيها ولا دنس أو خطيّة، وهي تتشفّع من أجلكم ومن أجل مدينتنا المحميّة للثالوثِ القدّوس.
أطلبُ منكم يا أولادي ألّا تقاتلوا أو تهتمّوا بشيءٍ كي لا تكونوا أولاداً لهذا العالم، أطلبوا معونة الربّ وشفاعةِ السيدة والدته القدّيسة غيرَ المردودة، وتُعانون حينها بقوّاتٍ غير منظورةٍ تحمينا من كلّ شرٍ وخطيئة وضغينة.
كنيستنا "سيدة البشارة" يوم عيدها غداً، تتشفّع للسيّد الكثيرِ الرحمة أن يُعيننا في هذا الموسم المبارك وهو ربّ القوّات، المعين في الأحزان، ليس لنا سواه. هو القائل "ثقوا إنّي قد غلبت العالم" فلنضع بين راحتيه رجاءنا ولنصلّي من الآن.
لنا في أحد القلالي راهب شيخٌ اسمه"نكتاريوس"، ذاك يحفظُ بالدموعِ والتضرّعات أيقونةً عجائبيّةً لأمّنا القديسة والدة الإله، سنطلبُ منه أن ينزلَ المدينةَ مع الأيقونةِ وسنقيمُ الصلواتَ والتضرّعات في كلِّ الساحات، زياحاً سنسهرُ الليلَ قائمين حتّى الصباح نطلبُ من شفيعة كنيستنا أن تعيننا في هذه الضيّقة. كلّنا سنصلّي معاً: رهباناً وراهبات وكهنةً ورعيّة ورؤساء.
كانَ القرار إذ ذاك للملك، وهو صاحبُ الكلمةِ الآن وعليه أن يختار، لم يشكّ أبداً في محبّةِ هؤلاء لمدينتهم وولائِهم الكبيرِ لها، رغمَ أنَّ كلاً منهم رأى حلاًّ مغايراً للآخر. وبعد تفكيرٍ وصلاةٍ من الجميع وقف الملك وقال كلمته عالياً بصوتٍ عظيم:
"قم ياربُّ واحكم في الأرض، إنّهم لا يعلمون ولا يفقهون أنّهم في الظلام يسلكون، أسسُ الأرضِ جميعها تتزلزل... قم يارب واحكم في أرضنا لأنك ترث جميع الأمم"
دقّت أجراسُ الكنائسِ طولَ اللّيل حتّى طنّ صداها في كلِّ البحار، وتصاعدَ البخورُ من كلِّ سطحٍ وبيت، بروحٍ لا تنطفئُ عزيمتها للسما، خرج الكلُّ في زياحٍ عظيمٍ بأيقونةِ الراهبِ "نكتاريوس" العجائبيّة، وبالمراوحِ والصلبان داروا المدينةَ مئاتِ المرّات... يُرنّمون لوالدةِ الإله كي تتشفّع في خلاصِ نفوسهم ونجاةِ مدينتهم، لم يغمضْ لهم جفنٌ ولا رفّ فيهم منامُ الخوفِ من غدٍ رهيب، ولا عرفوا طعمَ النومِ ولا ذاقوا شيئاً غير الصلاة.
كانَ ذلكَ حتّى استفاقت الشمسُ من ورا البحارِ لتكشفَ عن مئاتِ السفنِ الراسية حولَ المدينة تحاصُرها وتهددّ كلَّ ما فيها ببطشِ السّلاحِ والإرهاب.
بقيتِ الرعيّةُ تُرتّل ولم تيأس من رحمةِ الفادي القدير.
لمعَ في الأفقِ سهمٌ من الشاطئ، عالياً وسريعاً يطير، اتّجه وضربَ جرسَ الكنيسةِ وأصابه بلحنٍ عذبٍ من الطنين.
وتكاثرتْ الأسهمُ من السفنِ المعادية وعلَتْ هتافاتُ المؤمنين للعذراء...
وهي الأمُّ المحامية والسريعة الإستجابة، رآها الجميعُ تقف على أسوار المدينة العالية متسربلةً حلّةً بيضاء، فتحت ذراعيها الحاميتين ومدّت راحتيها المحاميتَين وردّت على المدينة شرور الظلّام وعلى سفنهم أذاقتِ المرَّ للشرّ الجسير، لم تسمحْ لنفسٍ أن تهلكَ ولا لروحٍ أن تتألّم ولا لجسدٍ أن يشقى، ردّت أفواه المتكلمين بالغشّ ونصرتْ طالبي شفاعتها وهي غيرُ المخذولة عند الشدائد، فضحتِ الظالمين، وعلى أدراجهم عادوا خائبين، وسربلتْ مدينتها بشفاعاتها فأيُّ مديحٍ نصنعُ لك؟ وأيُّ ترتيل لاسمكِ يليق؟ أمديحاً لا يُجلس فيه أم تضرعاتٍ لا تنتهي؟ منذ اليوم سنسمّي مدنيتنا لك وستكونين مليكتها في السِلم و عند الشدّة، في الفرح وفي الغمّ. منذ اليوم سنقيمُ المدائحَ في الصوم المبارك الكبير، وسنكتبُ ما لا يكفي في مديحك وستكونُ أرضنا ونفوسنا مدينتك الدائمةِ الذكر، وسيهتفُ لك كلُّ المؤمنين في بقاعِ الأرضِ دوماً وإلى الأبدِ نداءَ الإستغاثة ونداءَ الشكرِ والحبّ: "إنّي أنا مدينتك يا والدة الإله أكتبُ لك راياتَ الغلبة يا جنديةً محامية وأُقدِّم لكِ الشكرَ كمنقذةٍ من الشدائد لكنْ بما أنّ لك العزّة التي لا تُحارِب أعتقيني من صنوفِ الشدائد حتّى أصرخَ إليك: افرحي يا عروساً لا عريس لها"
ولمّا تزل حرارة التسابيح للعذراء حارّةً وساخنةً غيرَ فاترةٍ أبداً ولا ساكتة.
كانَ ذلك منذ أكثر من ألف عام...ولمّا يزل الشعب يرتّل سويّاً "إنّي أنا عبدك" في المدائح...
رجاءٌ خاص: أرجو أن تعيدوا لكتبِ صلواتِ المديح اسمها القديم: ( خدمة صلاة المديح الذي لا يُجلس فيه)، فلتسامحوني،ولتسامحني العذراء والدة الإله علّ في قلبي حسَنٌ لأكون مدينتها ...
رافي نقولا كباس
منقول :
http://www.serafemsarof.org/vb/showthread-t_2705.html
http://vb.orthodoxonline.org/showthread.php?t=7963
Comment