في منتصف التسعينيات كتبت الصحف الفرنسية تقول: إن الأدب الفرنسي كان في طريقه للموت لولا اثنان: "فرنسوا ميتران" و"أمين معلوف"! ورغم أن المبالغة واضحة فإن المقولة تكشف عن قيمة أدب أمين معلوف أحد أهم وأشهر الكتاب الفرانكفونيين، هذا هو الاسم الذي تطلقه الأوساط الأدبية والثقافية الفرنسية على مجموعة الكتاب ذوي الأصول العربية الذين يكتبون بالفرنسية. ومن هؤلاء المغربي "الطاهر بن جلون" والجزائريان "محمد ديب" و"مالك حداد" والموريتاني "محمد عبيد هوندو" والمصريون "أندريه شديد" و"ألبير قصير" و"أحمد راسم" و"جورج حنين".
من الصحافة إلى الأدب
ولد أمين معلوف في بيروت عام 1949، ودرس الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بمدرسة الآداب العليا بالجامعة اليسوعية في بيروت، وامتهن الصحافة بعد تخرجه فعمل في الملحق الاقتصادي لجريدة "النهار" البيروتية الشهيرة التي تعتبر من أهم الصحف اللبنانية. عمل أيضا إلى جانب عمله كمحرر اقتصادي محررا للشئون الدولية بالجريدة، وهو ما أتاح له الاطلاع على الكثير من التطورات السياسية والدبلوماسية في العالم خاصة أن "غسان تويني" صاحب الجريدة ورئيس تحريرها كان من أهم رجال الدولة في لبنان في فترة الستينيات وأوائل السبعينيات إبان حكم الرئيسين "شارل حلو" و"سليمان فرنجية".
وفي عام 1976 ومع بداية الحرب الأهلية اللبنانية ترك معلوف لبنان وانتقل إلى فرنسا حيث عمل في مجلة "إيكونوميا" الاقتصادية، واستمر في عمله الصحفي فرأس تحرير مجلة "إفريقيا الشابة" أو"جين أفريك"، وكذلك استمر في العمل مع جريدة "النهار" اللبنانية وفي ربيبتها المسماة "النهار العربي والدولي".
ومنذ الثمانينيات تفرغ للأدب وأصدر أول رواياته "الحروب الصليبية كما رآها العرب" عام 1983 عن دار النشر "لاتيس" التي صارت دار النشر المتخصصة في أعماله. ترجمت أعماله إلى لغات عديدة ونال عدة جوائز أدبية فرنسية منها جائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1986 عن روايته "ليون الإفريقي"، ورشح لجائزة "الجونكور" أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية. ومن أهم أعماله بالإضافة لما ذكرنا "سمرقند" و"القرن الأول بعد بياتريس" و"حدائق النور" و"موانئ المشرق" "وصخرة طانيوس".
لا يكفي أن نقول: إن أمين معلوف روائي كبير، أو أن نقول: إنه مرشح لنيل جائزة نوبل أو غير ذلك، فكل هذا مجرد أوصاف لا تضيف شيئا للرجل أو لأدبه، ما نريده حقا هو تحليل السمات العامة المميزة لأدب معلوف سواء أكانت تلك السمات تمثل أسلوبه في السرد، أو الخصائص الروائية المضمونية في هذا الأدب.
التسامح
أول سمات أدب معلوف والتي تمثل خاصية واضحة في كل أعماله وخيطا رابطا بين هذه الأعمال هي التسامح.
التسامح الذي هو علاقة إيجابية بين الأنا بكل دوائرها والآخر بكل ألوان طيفه، وهذه السمة جزء من تكوين معلوف ذاته المسيحي العربي اللبناني، التسامح هنا صفة شخصية ولكنه يتحول إلى سمة أدبية في أعماله المختلفة، ففي أول أعماله: "الحروب الصليبية كما يراها العرب" يتحدث معلوف إلى المجتمعات الأوربية مناقشا المفاهيم الأساسية للحضارة ذاتها، فالحروب الصليبية في الذهنية الأوربية تعني فعلا إيجابيا، ولعلنا نتذكر كيف استخدم "بوش" هذا المفهوم في كلامه عن حملة أفغانستان وكيف أثار هذا الاستخدام ثائرة العرب والمسلمين، وربما كان ما يريده معلوف تحديدا هو تجنب مثل هذا الاستخدام وكأنه يقول للغرب: في الوقت الذي تتكلمون فيه عن إلغاء المركزية الأوربية لا بد من إعادة النظر في المفاهيم التي تعتبرونها بديهية وإعادة النظر هي بداية الطريق للتسامح.
يقدم معلوف في روايته تلك الرؤية العربية للحروب الصليبية، ويوضح بأسلوب بسيط وسلس كيف أن العرب لا يرونها حروبا دينية من أجل الصليب وإنما حملات استعمارية، مشددا على المجازر التي ارتكبتها تلك الحملات في حق جميع الأديان بما فيها المسيحية.
وفي رواية "ليون الإفريقي" يحكي لنا قصة الرحالة والعالم والدبلوماسي "الحسن بن محمد الوزان" النبيل الأندلسي الذي عاش الأعوام الأخيرة للمسلمين في الأندلس ثم هاجر مع أسرته إلى المغرب وقام برحلات إلى شمال إفريقيا ومصر ثم اختطفه القراصنة الإيطاليون وعاش في البلاط البابوي حيث تغير اسمه إلى "ليون دي مويتشي" وتزوج فتاة متنصرة من يهود الأندلس وأنجب منها ابنه "يوسف" أو "جوزيف" أو "جيوسبي" الذي يروي لنا قصة حياته. و"ليون" عند معلوف ليس عربيا مسلما متنصرا ثم عائدا إلى دينه الذي أقام عليه طوال فترة أَسره ولكنه شخصية أسطورية مثالية حالمة، شخصية تحلم بعالم فاضل بلا حرب تتدفق فيه المعرفة ويتبادل فيه البشر الخبرات، إنه تجسيد للتسامح.
في "سمرقند" يقص علينا معلوف قصة "عمر الخيام" الشاعر العالم الأديب الفقيه، وعلاقته بالسلطة (ممثلة في نظام الملك) والمعارضة (ممثلة في الحسن بن الصباح)، الخيام مثل ليون الإفريقي، كان يصوره معلوف شخصية لا زمانية، متجردة تبحث عن عالم مثالي، ولا تحاول الاقتراب من الواقع المؤلم ولكنها تصنع لنفسها واقعها الخاص من خلال المراصد والبحث في عالم الفلك الرحيب، إنه -مرة أخرى- التسامح الفردي الإنساني الذي يتطلع إلى تسامح كوني.
في "حدائق النور" يتكلم معلوف عن "ماني"، هذا الفارس الحالم بالمساواة بين البشر والطامح إلى عالم خال من الحقد والحرب والبغضاء، عالم يدعو إلى نبذ السلطة بكل أشكالها والانغماس في عالم الفن، الرسام الذي يكتب بريشته لوحات تدعو إلى الحب ويدعو أتباعه إلى التسامح بآلات الموسيقى بدلا من الحرب، يحاول التوفيق بين الإمبراطورية الساسانية الفارسية والإمبراطورية الرومانية فيكون مصيره الموت في النهاية.
وفي "موانئ الشرق" يقدم البطل "عصيان كتبدار" المسلم العثماني ذو الجد الأرميني الذي ولد في تركيا وترعرع في لبنان ودرس بفرنسا، إنه المواطن العالمي الذي يجسد فكرة التسامح في أجمل وأكمل معانيها فيكون مصيره الجنون ومستشفى الأمراض العقلية الذي لا يخرج منه إلا مع الحرب في سخرية مرة ومؤلمة.
وفي "القرن الأول بعد بياترس" يحكي لنا قصة عالِم الحشرات الذي يقع في غرام الصحفية ويواجهان معا نوعا من التعقيم الإجباري للشعوب؛ إنه الدواء العجيب الذي يتيح للمرأة إنجاب الذكور فقط، التسامح هنا ليس التسامح بين الشعوب ولكنه التسامح داخل النوع البشري، التسامح مع الذات عن طريق رفض أي أعراف أو تقاليد إذا كانت مدمرة للجنس البشري. المرأة رمز الخصوبة والنماء في مواجهة الرجل رمز الحرب والقوة. ومرة أخرى يطرح معلوف سؤالا: هل الحقد هو البنية الأساسية للجنس البشري؟
ويبدو التسامح عند معلوف مثل السعادة عند "ميترلنك" طائرا خرافيا، نظن أننا أمسكناه بين أصابعنا فلا يلبث أن يفر ضاحكا أو نكشف عن زيفه. هل العيب في طريقنا أم أن العيب فينا؟ هذا هو تساؤل معلوف المتكرر والذي يظل حائرا بلا إجابة يلح على الكاتب فيطرحه على القارئ دائما وأبدا.
ثنائية الشرق والغرب
السمة الثانية هي تلك العلاقة المراوغة بين الشرق والغرب، هل سيظل "الشرق شرقا والغرب غربا ولا يتلقيان" كما قال "كبلينج" الشاعر الإنجليزي الشهير.
معلوف يحاول ردم هذا البرزخ وإقامة جسر حقيقي للتواصل بين الحضارات، إنه يرى العالم من خلال الأفراد وليس من خلال الكليات الفكرية.
في "الحروب الصليبية" يكلمنا ويكلم الغرب بالأساس عن رموز المسلمين وسلوكياتهم، عن ابن منقذ الطبيب والشاعر والفقيه وعالم اللغة، وعن معين الدين أنر السياسي والدبلوماسي، وعن صلاح الدين القائد السياسي والمحارب والمفاوض والعالم.. إنه يقول لهم: لقد أقام الأجداد علاقات رغم الأحقاد فلماذا لا نفعل مثلهم؟
وفي "ليون الإفريقي" يحكي لنا عبر شخصيات مختلفة كيف يمكن لفرد أن يتنقل بين عالمين مختلفين تماما في الظاهر، ولكنه يظل هو ذاته بكل خصائصه يلعب نفس الدور المسالم الحالم في إطار الدسائس والحروب والمؤامرات والقتل والاغتصاب والاستباحة؛ استباحة القاهرة على أيدي جنود سليم خان المسلمين، واستباحة روما المسيحية على أيدي المرتزقة الألمان المسيحيين، وفي الحالتين يتأمل الحسن بن محمد الواقع من خلال موقع المشاهد الخارجي وينتهي به الحال إلى الخروج والهرب.
الفرار من الواقع إلى العلم والكتب هو سبيل اللقاء بين هذين العالمين المختلفين المتشابهين.
هنا يعيد معلوف في روايته التاريخية النظر في فكرة العولمة ويطرحها من خلال رؤية عالم بلا حدود به مواطن عالمي لا يتقيد ببلد ولا يستقر في وطن: "الخيّام" العالم الرحالة أو سميه الأمريكي "عمر" الذي ينتقل من أمريكا لفرنسا لتركيا لإيران بحثا عن المخطوط الحلم والحب الأسطورة.
"ليون" الرحالة العالم الذي تأخذه الأقدار من الأندلس للمغرب لإفريقيا يتاجر ويحمل رسائل الملوك ثم مصر ثم إيطاليا، لا يستقر به المقام إلا عند الموت.
"عصيان" المولود في إستانبول وأبوه الذي يريد له أن يكون ثوريا متمردا وأخوه المهرب الوزير وزوجته "كلارا" اليهودية الشيوعية الألمانية الفرنسية، شخصيات رحالة غير مستقرة ترفض الواقع المادي وتطلب المستحيل ولكنها عبر هذا الطلب تعيش وتترك لنا ثروة من الخبرات والتجارب الصغيرة والكبيرة ولا تكف عن الحلم. إنه المواطن العالمي غير المتكيف ولكن الباقي والمستمر الذي يحمل أملا بلا حدود في غد أفضل ربما لا يأتي أبدا.
عادي ومألوف.. ومتمرد أيضا!
شخصيات معلوف كلها قد تبدو شخصيات خارقة للعادة ولكنها عند التدقيق شخصيات عادية جدا؛ عمر الخيام يأكل ويحب ويبحث وينظم الشعر ويكتب الكتب ويصادق الفقهاء والأمراء والوزراء والعصاة ويحلم أبدا بعالم مثالي ويرفض كل سلطة ولكنه يعتمد على تلك السلطة كي يعيش، عصيان المجنون الذي يحتمل أن يكون جنونه وراثيا، الذي يذهب لفرنسا لدراسة الطب متمردا على رغبة والده في أن يكون قائدا ثوريا فلا يستطيع إلا أن يحقق تلك الرغبة بانخراطه في المقاومة الشعبية في النازي ليحقق في عصيانه رغبة والده.
"ماني" المتمرد على أوامر الأسينيين أصحاب الملابس البيضاء الذكوريين التطهريين، الذي يدعو للحب والفن ويحاول تحقيق حلمه عبر السلطة فيكون مصيره الموت على يد تلك السلطة ذاتها.
إنها شخصيات عادية مألوفة ولكنها من زاوية أخري خارقة وغير مألوفة ومتمردة تماما يتحقق تمردها عبر حياتها العادية التي تدهشنا كما تدهش الراوي، وما إن ندقق النظر فيها حتى نجد أنها كانت تحيا مثلنا.
من الصحافة إلى الأدب
ولد أمين معلوف في بيروت عام 1949، ودرس الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بمدرسة الآداب العليا بالجامعة اليسوعية في بيروت، وامتهن الصحافة بعد تخرجه فعمل في الملحق الاقتصادي لجريدة "النهار" البيروتية الشهيرة التي تعتبر من أهم الصحف اللبنانية. عمل أيضا إلى جانب عمله كمحرر اقتصادي محررا للشئون الدولية بالجريدة، وهو ما أتاح له الاطلاع على الكثير من التطورات السياسية والدبلوماسية في العالم خاصة أن "غسان تويني" صاحب الجريدة ورئيس تحريرها كان من أهم رجال الدولة في لبنان في فترة الستينيات وأوائل السبعينيات إبان حكم الرئيسين "شارل حلو" و"سليمان فرنجية".
وفي عام 1976 ومع بداية الحرب الأهلية اللبنانية ترك معلوف لبنان وانتقل إلى فرنسا حيث عمل في مجلة "إيكونوميا" الاقتصادية، واستمر في عمله الصحفي فرأس تحرير مجلة "إفريقيا الشابة" أو"جين أفريك"، وكذلك استمر في العمل مع جريدة "النهار" اللبنانية وفي ربيبتها المسماة "النهار العربي والدولي".
ومنذ الثمانينيات تفرغ للأدب وأصدر أول رواياته "الحروب الصليبية كما رآها العرب" عام 1983 عن دار النشر "لاتيس" التي صارت دار النشر المتخصصة في أعماله. ترجمت أعماله إلى لغات عديدة ونال عدة جوائز أدبية فرنسية منها جائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1986 عن روايته "ليون الإفريقي"، ورشح لجائزة "الجونكور" أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية. ومن أهم أعماله بالإضافة لما ذكرنا "سمرقند" و"القرن الأول بعد بياتريس" و"حدائق النور" و"موانئ المشرق" "وصخرة طانيوس".
لا يكفي أن نقول: إن أمين معلوف روائي كبير، أو أن نقول: إنه مرشح لنيل جائزة نوبل أو غير ذلك، فكل هذا مجرد أوصاف لا تضيف شيئا للرجل أو لأدبه، ما نريده حقا هو تحليل السمات العامة المميزة لأدب معلوف سواء أكانت تلك السمات تمثل أسلوبه في السرد، أو الخصائص الروائية المضمونية في هذا الأدب.
التسامح
أول سمات أدب معلوف والتي تمثل خاصية واضحة في كل أعماله وخيطا رابطا بين هذه الأعمال هي التسامح.
التسامح الذي هو علاقة إيجابية بين الأنا بكل دوائرها والآخر بكل ألوان طيفه، وهذه السمة جزء من تكوين معلوف ذاته المسيحي العربي اللبناني، التسامح هنا صفة شخصية ولكنه يتحول إلى سمة أدبية في أعماله المختلفة، ففي أول أعماله: "الحروب الصليبية كما يراها العرب" يتحدث معلوف إلى المجتمعات الأوربية مناقشا المفاهيم الأساسية للحضارة ذاتها، فالحروب الصليبية في الذهنية الأوربية تعني فعلا إيجابيا، ولعلنا نتذكر كيف استخدم "بوش" هذا المفهوم في كلامه عن حملة أفغانستان وكيف أثار هذا الاستخدام ثائرة العرب والمسلمين، وربما كان ما يريده معلوف تحديدا هو تجنب مثل هذا الاستخدام وكأنه يقول للغرب: في الوقت الذي تتكلمون فيه عن إلغاء المركزية الأوربية لا بد من إعادة النظر في المفاهيم التي تعتبرونها بديهية وإعادة النظر هي بداية الطريق للتسامح.
يقدم معلوف في روايته تلك الرؤية العربية للحروب الصليبية، ويوضح بأسلوب بسيط وسلس كيف أن العرب لا يرونها حروبا دينية من أجل الصليب وإنما حملات استعمارية، مشددا على المجازر التي ارتكبتها تلك الحملات في حق جميع الأديان بما فيها المسيحية.
وفي رواية "ليون الإفريقي" يحكي لنا قصة الرحالة والعالم والدبلوماسي "الحسن بن محمد الوزان" النبيل الأندلسي الذي عاش الأعوام الأخيرة للمسلمين في الأندلس ثم هاجر مع أسرته إلى المغرب وقام برحلات إلى شمال إفريقيا ومصر ثم اختطفه القراصنة الإيطاليون وعاش في البلاط البابوي حيث تغير اسمه إلى "ليون دي مويتشي" وتزوج فتاة متنصرة من يهود الأندلس وأنجب منها ابنه "يوسف" أو "جوزيف" أو "جيوسبي" الذي يروي لنا قصة حياته. و"ليون" عند معلوف ليس عربيا مسلما متنصرا ثم عائدا إلى دينه الذي أقام عليه طوال فترة أَسره ولكنه شخصية أسطورية مثالية حالمة، شخصية تحلم بعالم فاضل بلا حرب تتدفق فيه المعرفة ويتبادل فيه البشر الخبرات، إنه تجسيد للتسامح.
في "سمرقند" يقص علينا معلوف قصة "عمر الخيام" الشاعر العالم الأديب الفقيه، وعلاقته بالسلطة (ممثلة في نظام الملك) والمعارضة (ممثلة في الحسن بن الصباح)، الخيام مثل ليون الإفريقي، كان يصوره معلوف شخصية لا زمانية، متجردة تبحث عن عالم مثالي، ولا تحاول الاقتراب من الواقع المؤلم ولكنها تصنع لنفسها واقعها الخاص من خلال المراصد والبحث في عالم الفلك الرحيب، إنه -مرة أخرى- التسامح الفردي الإنساني الذي يتطلع إلى تسامح كوني.
في "حدائق النور" يتكلم معلوف عن "ماني"، هذا الفارس الحالم بالمساواة بين البشر والطامح إلى عالم خال من الحقد والحرب والبغضاء، عالم يدعو إلى نبذ السلطة بكل أشكالها والانغماس في عالم الفن، الرسام الذي يكتب بريشته لوحات تدعو إلى الحب ويدعو أتباعه إلى التسامح بآلات الموسيقى بدلا من الحرب، يحاول التوفيق بين الإمبراطورية الساسانية الفارسية والإمبراطورية الرومانية فيكون مصيره الموت في النهاية.
وفي "موانئ الشرق" يقدم البطل "عصيان كتبدار" المسلم العثماني ذو الجد الأرميني الذي ولد في تركيا وترعرع في لبنان ودرس بفرنسا، إنه المواطن العالمي الذي يجسد فكرة التسامح في أجمل وأكمل معانيها فيكون مصيره الجنون ومستشفى الأمراض العقلية الذي لا يخرج منه إلا مع الحرب في سخرية مرة ومؤلمة.
وفي "القرن الأول بعد بياترس" يحكي لنا قصة عالِم الحشرات الذي يقع في غرام الصحفية ويواجهان معا نوعا من التعقيم الإجباري للشعوب؛ إنه الدواء العجيب الذي يتيح للمرأة إنجاب الذكور فقط، التسامح هنا ليس التسامح بين الشعوب ولكنه التسامح داخل النوع البشري، التسامح مع الذات عن طريق رفض أي أعراف أو تقاليد إذا كانت مدمرة للجنس البشري. المرأة رمز الخصوبة والنماء في مواجهة الرجل رمز الحرب والقوة. ومرة أخرى يطرح معلوف سؤالا: هل الحقد هو البنية الأساسية للجنس البشري؟
ويبدو التسامح عند معلوف مثل السعادة عند "ميترلنك" طائرا خرافيا، نظن أننا أمسكناه بين أصابعنا فلا يلبث أن يفر ضاحكا أو نكشف عن زيفه. هل العيب في طريقنا أم أن العيب فينا؟ هذا هو تساؤل معلوف المتكرر والذي يظل حائرا بلا إجابة يلح على الكاتب فيطرحه على القارئ دائما وأبدا.
ثنائية الشرق والغرب
السمة الثانية هي تلك العلاقة المراوغة بين الشرق والغرب، هل سيظل "الشرق شرقا والغرب غربا ولا يتلقيان" كما قال "كبلينج" الشاعر الإنجليزي الشهير.
معلوف يحاول ردم هذا البرزخ وإقامة جسر حقيقي للتواصل بين الحضارات، إنه يرى العالم من خلال الأفراد وليس من خلال الكليات الفكرية.
في "الحروب الصليبية" يكلمنا ويكلم الغرب بالأساس عن رموز المسلمين وسلوكياتهم، عن ابن منقذ الطبيب والشاعر والفقيه وعالم اللغة، وعن معين الدين أنر السياسي والدبلوماسي، وعن صلاح الدين القائد السياسي والمحارب والمفاوض والعالم.. إنه يقول لهم: لقد أقام الأجداد علاقات رغم الأحقاد فلماذا لا نفعل مثلهم؟
وفي "ليون الإفريقي" يحكي لنا عبر شخصيات مختلفة كيف يمكن لفرد أن يتنقل بين عالمين مختلفين تماما في الظاهر، ولكنه يظل هو ذاته بكل خصائصه يلعب نفس الدور المسالم الحالم في إطار الدسائس والحروب والمؤامرات والقتل والاغتصاب والاستباحة؛ استباحة القاهرة على أيدي جنود سليم خان المسلمين، واستباحة روما المسيحية على أيدي المرتزقة الألمان المسيحيين، وفي الحالتين يتأمل الحسن بن محمد الواقع من خلال موقع المشاهد الخارجي وينتهي به الحال إلى الخروج والهرب.
الفرار من الواقع إلى العلم والكتب هو سبيل اللقاء بين هذين العالمين المختلفين المتشابهين.
هنا يعيد معلوف في روايته التاريخية النظر في فكرة العولمة ويطرحها من خلال رؤية عالم بلا حدود به مواطن عالمي لا يتقيد ببلد ولا يستقر في وطن: "الخيّام" العالم الرحالة أو سميه الأمريكي "عمر" الذي ينتقل من أمريكا لفرنسا لتركيا لإيران بحثا عن المخطوط الحلم والحب الأسطورة.
"ليون" الرحالة العالم الذي تأخذه الأقدار من الأندلس للمغرب لإفريقيا يتاجر ويحمل رسائل الملوك ثم مصر ثم إيطاليا، لا يستقر به المقام إلا عند الموت.
"عصيان" المولود في إستانبول وأبوه الذي يريد له أن يكون ثوريا متمردا وأخوه المهرب الوزير وزوجته "كلارا" اليهودية الشيوعية الألمانية الفرنسية، شخصيات رحالة غير مستقرة ترفض الواقع المادي وتطلب المستحيل ولكنها عبر هذا الطلب تعيش وتترك لنا ثروة من الخبرات والتجارب الصغيرة والكبيرة ولا تكف عن الحلم. إنه المواطن العالمي غير المتكيف ولكن الباقي والمستمر الذي يحمل أملا بلا حدود في غد أفضل ربما لا يأتي أبدا.
عادي ومألوف.. ومتمرد أيضا!
شخصيات معلوف كلها قد تبدو شخصيات خارقة للعادة ولكنها عند التدقيق شخصيات عادية جدا؛ عمر الخيام يأكل ويحب ويبحث وينظم الشعر ويكتب الكتب ويصادق الفقهاء والأمراء والوزراء والعصاة ويحلم أبدا بعالم مثالي ويرفض كل سلطة ولكنه يعتمد على تلك السلطة كي يعيش، عصيان المجنون الذي يحتمل أن يكون جنونه وراثيا، الذي يذهب لفرنسا لدراسة الطب متمردا على رغبة والده في أن يكون قائدا ثوريا فلا يستطيع إلا أن يحقق تلك الرغبة بانخراطه في المقاومة الشعبية في النازي ليحقق في عصيانه رغبة والده.
"ماني" المتمرد على أوامر الأسينيين أصحاب الملابس البيضاء الذكوريين التطهريين، الذي يدعو للحب والفن ويحاول تحقيق حلمه عبر السلطة فيكون مصيره الموت على يد تلك السلطة ذاتها.
إنها شخصيات عادية مألوفة ولكنها من زاوية أخري خارقة وغير مألوفة ومتمردة تماما يتحقق تمردها عبر حياتها العادية التي تدهشنا كما تدهش الراوي، وما إن ندقق النظر فيها حتى نجد أنها كانت تحيا مثلنا.
Comment