خلدون جاويد
يسهم عمالقة الشعر، ايليا أبو ماضي والجواهري ومولانا جلال الدين الرومي وآخرون عديدون في اعلاء وترقية المعاني السامية كلما تدنت، والمثل الزاهية كلما شحبت. والشعر رافعة لأعمدة الحضارة مادام مُسْهما في رسم رؤية كونية لعوالم الصفاء والرفعة الأخلاقية و"الاحساس بالغيرية " على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.
انه لمن البداهة القول ان بناء ترسانة شامخة لايكلف كثيرا ازاء بناء مجتمع ذي ذاتية راقية . فالبناء النفسي بحاجة الى شجاعة أشد من عزم المحارب في سوح القتال ، ومن ياترى يقوى على تجاوز الذاتيات والتفاني في سبيل العموم ؟، والحد من المآرب الشخصية والفئوية الضيقة من أجل الطموحات المجتمعية الانسانية العريضة ؟.
يقول ايليا ابو ماضي على سبيل المثال وهو يخاطب لبنان في قصيدة ( ليتهم عرفوه ):
قل للبنفسج في سفوحك والربى
ولى شبيهك في الوداعة فاخشع ِ
وامر طيورك ان تنوح على فتى
قد كان يهواها وان لم تسجع ِ
قد عاش مثلك للمروءة والعلى
متعففا كالزاهد المتورع
مترفعا في قوله وفعاله
عمن غوى وهوى ولم يترفع ِ
كم حرضته النفس في نزواتها
ليكون صاحب حيلة او مطمع ِ
فأجابها يانفس لاتتورطي
صدأ النفوس هي المطامع فاقنعي
ليس المحارب في الوغى بأشد
بأسا ً من محارب نفسه أو أشجع ِ .
ان النفس لتصدأ اذا هرعت خلف المطامع . واما التعفف والزهد في الحياة فانه مانح الانسان قدرته على المروءة . وارقى انظمة الرياضيات والتقنيات الحديثة لاتقوى على خلق كائن ذي مروءة لو لم يبدأ بشد عزيمة ذاته وترقيتها . وبذا فتنقية النفس هي مهمة أمضى من شجاعة الفارس النبيل .
ان النفس الانسانية كانت ولاتزال محط انظار كل الفلاسفة والمفكرين والتربويين من اجل الاعلاء بها ، وتمكين طاقاتها الباهية من ترسيخ العدالة والسعادة لكل المخلوقات على الارض .
وحول وصف النفس في مرتقاها ونيافتها ، عبر الشاعر محمد مهدي الجواهري بما يغري على قيم التهذيب والنبل والفداء ... قصيدة (كفارة وندم ):
عييت بطب الأحمقين وجهلهم
بأن النفوس الخيرات عجاب ُ
فهن اذا ما الأمر هان أباطح ٌ
وهن اذا ما الجد جد ّ هضاب ُ
وهن ّ منيفات ٌ لأن هويها
بألسنهن يزدرى ويعاب
وهن "عظيماتٌ" لأن صريحها
يئن أنين الكلب حين يشاب ُ
يضيق بها كون ٌ وهن فسائح ٌ
وسبع سموات وهن رحاب ُ
يساقين أحقابا وهن ظوامئٌ
ويطعمن اجيالا وهن سغاب ُ
انه ليس من العجب أن نجد نفوسا خيرة . ان الأحمق هو الذي يدعي عكس ذلك ، فالنفوس عاليات الهمة كالأباطح والهضاب . وهن منيفات ، وانه ليعاب على النفس ان لم تكن منيفة وعظيمة . وان النفس الانسانية اتساع هائل ، شبهه الشاعر بسبع سموات. ويراد من ذلك ان النفس قادرة على تحمل الأثقال والمصائب وانها تتسع لكل مآسي الحياة وتصبر ، وفيها من الحلم والتحمل ماهو واسع وكبير . ان الشاعر يعطي للذات الانسانية قيمة متميزة . وهذا ربما يدخل في اطار البحوث النفسية لسبر طبيعة النفس أو وصفها . وان خصال النفس الرفيعة انها تسعد بالعطاء ! فكم من نفوس هن مصداق لما أشار اليه الشاعر في كونهن ظوامئ لكنهن يسقين ويمنحن الاحقاب الماء العذب الذي هو الحكمة والعلم والمعرفة . وهن يكابدن أشد الجوع من اجل اطعام الاجيال كي تتقدم . ما أرقى النفس الانسانية في هذا المعرض من التصور . ان النفس الانسانية إناء لكمال الخير والطيبة والعظمة والنيافة والحكمة . بل هي تمد الاجيال بالتواصل وتنير المستقبل بالحفاظ على وجود ساكنيه .
ان التكالب على المنصب وشهوة المال قد أنزلا بالنفس الى هوة شنيعة من الاتساخ فكم من شخصية باهرة الاضواء الاّ وقد انزلتها ذاتياتها المقرفة الى مصاف الفضيحة ، وغدا ذلك الأصفر الذهبي الرنان صدأ ً تافها في نظر كل ذي ذرة من الغيرة على بلده وأبناء شعبه . لقد غدا الأمر في نظر مولانا جلال الدين الرومي محط تفضيل الفقر مع طيبة القلب وطهرانية الروح على عظمة القيصر والدكتاتور الخسيس ! وآخر وزير وغد هو الحامي والحرامي في آن ! :
"ان يدنا وقلبنا كلما فرغا كان خيرا لهما
وحرية القلب أحسن من كل الحسان
والعيش الطيب للمفلسين لحظة واحدة
خير من عظمة الف قيصر "
الاّ ان هناك من قال : انه من غير المجدي العمل في اوساط اجتماعية دمرتها الفاشية وانزلت بالنفوس الى الرذيلة واستسهال الاثراء على حساب المحتاجين . لقد تغير المجتمع وغدا النبيل نشازا ، والصادق الأمين غريبا ، وان التركة الهائلة من المفاسد على المستوى السلوكي لتعجز معه الكلمة الهادفة والتربية والشعر والفلسفة . وقد استشهدوا بجلال الدين الرومي بما يعاكس ويتقاطع مع فلسفته :
" واأسفاه ان تعزف على الطنبور أمام أصم
او يغدو يوسف مُساكنا للاعمى
او تضع السكّر في فم مريض
او يتزوج مخنث من حورية "
لكن الواقع يقول بأن لاخريف دائم ولا ليل الى مالانهاية ، وان الشمس يذر شارقها كل صباح ، ومادامت هناك خطى فالطريق لامتناه ٍ ، وان مقولة الحياة التي عبر عنها كارل ماركس " وبالعمل الانساني يتكون الانسان " هي الكلمة التي يمليها علينا وجودنا ، وان الأمل بالانجاز التربوي والتجاوز الايجابي هو مراقي الذوات الشماء وماعداه فهو المآرب الهابطة لضعاف النفوس .
يسهم عمالقة الشعر، ايليا أبو ماضي والجواهري ومولانا جلال الدين الرومي وآخرون عديدون في اعلاء وترقية المعاني السامية كلما تدنت، والمثل الزاهية كلما شحبت. والشعر رافعة لأعمدة الحضارة مادام مُسْهما في رسم رؤية كونية لعوالم الصفاء والرفعة الأخلاقية و"الاحساس بالغيرية " على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.
انه لمن البداهة القول ان بناء ترسانة شامخة لايكلف كثيرا ازاء بناء مجتمع ذي ذاتية راقية . فالبناء النفسي بحاجة الى شجاعة أشد من عزم المحارب في سوح القتال ، ومن ياترى يقوى على تجاوز الذاتيات والتفاني في سبيل العموم ؟، والحد من المآرب الشخصية والفئوية الضيقة من أجل الطموحات المجتمعية الانسانية العريضة ؟.
يقول ايليا ابو ماضي على سبيل المثال وهو يخاطب لبنان في قصيدة ( ليتهم عرفوه ):
قل للبنفسج في سفوحك والربى
ولى شبيهك في الوداعة فاخشع ِ
وامر طيورك ان تنوح على فتى
قد كان يهواها وان لم تسجع ِ
قد عاش مثلك للمروءة والعلى
متعففا كالزاهد المتورع
مترفعا في قوله وفعاله
عمن غوى وهوى ولم يترفع ِ
كم حرضته النفس في نزواتها
ليكون صاحب حيلة او مطمع ِ
فأجابها يانفس لاتتورطي
صدأ النفوس هي المطامع فاقنعي
ليس المحارب في الوغى بأشد
بأسا ً من محارب نفسه أو أشجع ِ .
ان النفس لتصدأ اذا هرعت خلف المطامع . واما التعفف والزهد في الحياة فانه مانح الانسان قدرته على المروءة . وارقى انظمة الرياضيات والتقنيات الحديثة لاتقوى على خلق كائن ذي مروءة لو لم يبدأ بشد عزيمة ذاته وترقيتها . وبذا فتنقية النفس هي مهمة أمضى من شجاعة الفارس النبيل .
ان النفس الانسانية كانت ولاتزال محط انظار كل الفلاسفة والمفكرين والتربويين من اجل الاعلاء بها ، وتمكين طاقاتها الباهية من ترسيخ العدالة والسعادة لكل المخلوقات على الارض .
وحول وصف النفس في مرتقاها ونيافتها ، عبر الشاعر محمد مهدي الجواهري بما يغري على قيم التهذيب والنبل والفداء ... قصيدة (كفارة وندم ):
عييت بطب الأحمقين وجهلهم
بأن النفوس الخيرات عجاب ُ
فهن اذا ما الأمر هان أباطح ٌ
وهن اذا ما الجد جد ّ هضاب ُ
وهن ّ منيفات ٌ لأن هويها
بألسنهن يزدرى ويعاب
وهن "عظيماتٌ" لأن صريحها
يئن أنين الكلب حين يشاب ُ
يضيق بها كون ٌ وهن فسائح ٌ
وسبع سموات وهن رحاب ُ
يساقين أحقابا وهن ظوامئٌ
ويطعمن اجيالا وهن سغاب ُ
انه ليس من العجب أن نجد نفوسا خيرة . ان الأحمق هو الذي يدعي عكس ذلك ، فالنفوس عاليات الهمة كالأباطح والهضاب . وهن منيفات ، وانه ليعاب على النفس ان لم تكن منيفة وعظيمة . وان النفس الانسانية اتساع هائل ، شبهه الشاعر بسبع سموات. ويراد من ذلك ان النفس قادرة على تحمل الأثقال والمصائب وانها تتسع لكل مآسي الحياة وتصبر ، وفيها من الحلم والتحمل ماهو واسع وكبير . ان الشاعر يعطي للذات الانسانية قيمة متميزة . وهذا ربما يدخل في اطار البحوث النفسية لسبر طبيعة النفس أو وصفها . وان خصال النفس الرفيعة انها تسعد بالعطاء ! فكم من نفوس هن مصداق لما أشار اليه الشاعر في كونهن ظوامئ لكنهن يسقين ويمنحن الاحقاب الماء العذب الذي هو الحكمة والعلم والمعرفة . وهن يكابدن أشد الجوع من اجل اطعام الاجيال كي تتقدم . ما أرقى النفس الانسانية في هذا المعرض من التصور . ان النفس الانسانية إناء لكمال الخير والطيبة والعظمة والنيافة والحكمة . بل هي تمد الاجيال بالتواصل وتنير المستقبل بالحفاظ على وجود ساكنيه .
ان التكالب على المنصب وشهوة المال قد أنزلا بالنفس الى هوة شنيعة من الاتساخ فكم من شخصية باهرة الاضواء الاّ وقد انزلتها ذاتياتها المقرفة الى مصاف الفضيحة ، وغدا ذلك الأصفر الذهبي الرنان صدأ ً تافها في نظر كل ذي ذرة من الغيرة على بلده وأبناء شعبه . لقد غدا الأمر في نظر مولانا جلال الدين الرومي محط تفضيل الفقر مع طيبة القلب وطهرانية الروح على عظمة القيصر والدكتاتور الخسيس ! وآخر وزير وغد هو الحامي والحرامي في آن ! :
"ان يدنا وقلبنا كلما فرغا كان خيرا لهما
وحرية القلب أحسن من كل الحسان
والعيش الطيب للمفلسين لحظة واحدة
خير من عظمة الف قيصر "
الاّ ان هناك من قال : انه من غير المجدي العمل في اوساط اجتماعية دمرتها الفاشية وانزلت بالنفوس الى الرذيلة واستسهال الاثراء على حساب المحتاجين . لقد تغير المجتمع وغدا النبيل نشازا ، والصادق الأمين غريبا ، وان التركة الهائلة من المفاسد على المستوى السلوكي لتعجز معه الكلمة الهادفة والتربية والشعر والفلسفة . وقد استشهدوا بجلال الدين الرومي بما يعاكس ويتقاطع مع فلسفته :
" واأسفاه ان تعزف على الطنبور أمام أصم
او يغدو يوسف مُساكنا للاعمى
او تضع السكّر في فم مريض
او يتزوج مخنث من حورية "
لكن الواقع يقول بأن لاخريف دائم ولا ليل الى مالانهاية ، وان الشمس يذر شارقها كل صباح ، ومادامت هناك خطى فالطريق لامتناه ٍ ، وان مقولة الحياة التي عبر عنها كارل ماركس " وبالعمل الانساني يتكون الانسان " هي الكلمة التي يمليها علينا وجودنا ، وان الأمل بالانجاز التربوي والتجاوز الايجابي هو مراقي الذوات الشماء وماعداه فهو المآرب الهابطة لضعاف النفوس .
Comment